width text-align:right;
text-align:right;
|
|||
يناير٢٠١١ نحو موقف يساري نقدي من التحول الديمقراطي في مصرعمرو عدليكانت الحرية شعارا اجتمع في ظله المصريون الثائرون على نظام مبارك طيلة ثلاثة أسابيع، وما إن تنحى الرئيس السابق وتأكد انهيار نظامه الأمني وحزبه الواحد حتى استيقظت الآمال في إقامة نظام ديمقراطي يقوم على الانتخاب الحر واحترام حقوق الإنسان السياسية والمدنية الأساسية، وبدا أن حقبة قد مضت إلى غير رجعة من القمع والفقر والتهميش لتتلوها أخرى أكثر ازدهارا في المجالين السياسي والاقتصادي، ومما دعم من هذا الشعور الجمعي ائتلاف إرادة الشعب في ميدان التحرير متجاوزة الفروق الحزبية والأيديولوجية والطائفية والطبقية والنوعية نحو هدف أوحد وهو إسقاط نظام مبارك، ولكن ما إن هوى مبارك ونظامه حتى كست الشروخ جدار الإرادة الشعبية الموحدة، وانتقلنا من مرحلة رومانسية الميدان إلى واقعية الشارع التي طرحت أسئلة مشروعة حول مستقبل مصر في ظل نظام ديمقراطي، وبالأحرى مستقبل قضايا مصيرية كالتنمية وتوزيع الدخل والثروة والتوتر الطائفي في ظل تركيبة ديمقراطية، هل الديمقراطية هي الحل كما ظل علاء الأسواني يكرر في مقالاته بالشروق لسنة أو سنتين قبل سقوط النظام؟ وهل يحل نظام ديمقراطي يقوم على تعددية الأحزاب وحرية الانتخاب والترشح مشكلات كالتهميش الاقتصادي والاجتماعي وإقصاء المرأة وقضايا الأقباط؟ قد تكون الإجابة بنعم مفرطة في التفاؤل أو في السذاجة السياسية وربما تؤدي الإجابة بلا إلى مسائلة سبب ثورة يناير والطعن في شرعيتها بل وقد تدفع بنا الإجابة بلا إلى تكرار موقف النظام المخلوع من أن المصريين غير جاهزين بعد للديمقراطية أو أن الديمقراطية ترف لا ينفع المصريين وجوده ولا يضيرهم غيابه، وفي خضم هذه الأسئلة الكثيرة وجدت أن علينا أن نأخذ موقفا داعما ولكن في ذات الوقت ناقدا، من احتمالات التحول الديمقراطي في مصر، ورأيت أن هذه هي مهمة اليسار الأولى في المرحلة الجديدة.دائما ما كان موقف اليسار أيديولوجيا وسياسيا مركبا إزاء الديمقراطية التمثيلية أو الليبرالية، وهي التي تقوم على انتخاب الشعب الحر لحكامه من بين مرشحين متنافسين في إطار من التعددية الحزبية التي تفضي إلى تمثيل سياسي، فالموقف الماركسي الكلاسيكي ابن النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان يرى الدولة الحديثة أداة في يد البرجوازية المهيمنة على أدوات الإنتاج في النظام الرأسمالي، وأن الديمقراطية الليبرالية القائمة على إتاحة حقوق فردية متساوية لا تعني الكثير للعمال، وأنها في نهاية الأمر مجرد أداة في يد البرجوازية ونوع من الوعي الزائف الذي يتجاهل أبعاد الصراع الطبقي وعلاقات الإنتاج لصالح رؤية فردية تقوم على الحريات السياسية فقط دونما تطرق لجوهر الصراع الاجتماعي والاقتصادي، وبحلول نهاية القرن التاسع عشر استمر التيار الاشتراكي الكلاسيكي على موقفه من الديمقراطية الليبرالية، وأدان قبول الديمقراطيين الاشتراكيين للاندماج في الحياة السياسية القومية كما كان الحال مع ماكس كاوتسكي في ألمانيا والاشتراكيين النمساويين بناء على أساس حزبي معتبرا ذلك نوعا من الممالئة وركونا للإصلاح بديلا من الثورة.وأما على المستوى التنظيمي والسياسي فقد اشتعلت الحرب العالمية الأولى ونجح حزب اشتراكي وهو الحزب البلشفي في إنشاء أول دولة اشتراكية في التاريخ في أعقاب ثورة أكتوبر 1917، وأفرزت الثورة البلشفية نظاما اشتراكيا سلطويا يقوم على دمج الدولة في الحزب الشيوعي، وأفسحت تلك التركيبة المجال أمام المرحلة الستالينية (1924-1953) والتي قدمت أول تجربة شمولية “توتاليتارية” في التاريخ الإنساني، وكان تأويل قيمة الديمقراطية في هذا السياق الشمولي قائما على الإعلاء من الديمقراطية الاقتصادية على تلك السياسية، باعتبار أن الثانية عبارة عن حقوق خاوية تخلو من أي مدلول اقتصادي أو اجتماعي يمس معيشة الفرد، وتم فرض النموذج الستاليني فرضا في أعقاب الحرب العالمية الثانية على دول شرق ووسط أوروبا في إطار إمبراطورية سوفيتية شكلت ملامح عقود الحرب الباردة (1949-1991) وتم تصدير هذا النموذج للصين قبل أن ينتج ماو-تسي-تونج (1949-1978) نموذجا ميزه عن غيره، وخلاصة الأمر لم يكن للديمقراطية الليبرالية التمثيلية حظ لدى الماركسية الكلاسيكية وفروعها المختلفة (اللينينية والستالينية والماوية والتروتسكية والجرامشية) سواء على مستوى التنظير الأيديولوجي أو على مستوى الممارسة السياسية، إما باعتبارها وعيا زائفا تفرضه البرجوازية أو أداة من أدوات الهيمنة الثقافية.على أنه ظلت هناك استثناءات على المستوى الأكاديمي لليسار الماركسي خاصة في فترة ما بين الحربين العالميتين (1918-1939)، فقد دفع صعود اليمين القومي والفاشي في دول كألمانيا وإيطاليا وأسبانيا وغيرها من دول شرق أوروبا كرومانيا وبلغاريا على حساب ديمقراطيات ليبرالية هشة وغير مستقرة بعض المنظرين الماركسيين إلى مراجعة الموقف من الديمقراطية السياسية كما كان الحال مع كارل مينهايم وآباء مدرسة فرانكفورت:هوركهايمر وماركوزيه وأدورنو وكذلك وولتر بنيامين وحنا أرندت وكارل جاسبر خاصة فيما يتعلق بالحقوق الإنسانية الأساسية كالحق في حرية التعبير والرأي والمساواة أمام القانون بل والسلامة البدنية التي افتقدها هؤلاء بحكم كونهم يهودا أو اشتراكيين، وكان إشكال التصور الماركسي الكلاسيكي من الديمقراطية الليبرالية آنذاك متمثلا في غلبة التأويلات الفجة على نظرية ماركس للتاريخ والتي تحولت في نهاية الأمر إلى رؤية ميكانيكية وحتمية تخلو من أي فاعلين وتقوم على قوانين حديدية كقوانين الفيزياء، ولعل جورج لوكاس أحد أعظم من قدم نقدا لهذا التصور السوقي للماركسية Vulgar Marxism ، وأدت غلبة هذه التصورات الميكانيكية على اليسار الألماني إلى عدم التحرك في مواجهة اليمين القومي في انقلابه على مؤسسات ديمقراطية فيمير (1919-1933) باعتبار أن ألمانيا لم تبلغ بعد مرحلة الثورة الاشتراكية، وأما الإشكال الثاني فكان التقاء نقد اليسار للديمقراطية الليبرالية باعتبارها خالية من أي معنى ومجرد لعبة لنخب سياسية محتالة مع ذات النقد الموجه للديمقراطية ولليبرالية عامة من قبل اليمين، وهو ما تجلى في كتابات جاتينيو موسكا وألفريدو باريتو في بداية القرن العشرين ثم مؤلفات كارل شميت في ذات الفترة ما بين الحربين، وتداعيات ذلك على وصول نخب فاشية ونازية لسدة الحكم ومن ثم التمهيد للحرب العالمية الثانية وإبادة اليهود والغجر وغيرها من الفظائع التي شهدتها الحرب.وفي ظل الحرب الباردة، لم يبرح الموقف الأكاديمي اليساري في أوروبا الغربية أرثوذكسيته الماركسية كثيرا في تقييمه للديمقراطية الليبرالية حيث رآها أوليفر ميليباند ونيكوس بولانزاس في ستينيات القرن العشرين، على اختلافهما في قراءة علاقة الدولة بالنظام الرأسمالي، كأداة أو آلية تؤمن تداول السلطة في أوساط نخبة ملتزمة بإعادة إنتاج العلاقات الرأسمالية، والتي لا تتيح رغم التعددية السياسية المفترضة فرصا حقيقية لوصول أحزاب اشتراكية تغير على نحو جذري من توزيع الدخل والثروة في المجتمعات، واستدل ميليباند على ذلك بالحديث عن الموانع والعوائق البنيوية التي أجهضت برامج أحزاب اليسار كالعمال في بريطانيا والاشتراكيين في فرنسا وبلجيكا، ودفعت بهم نحو اليمين من الناحية العملية رغم فوزهم بالأغلبية البرلمانية، وتزامنت تلك الأدبيات الماركسية الحديثة عن الدولة مع نزوع اليسار الحديث لما بعد الماركسية وما بعد الحداثة وما بعد البنيوية بدءا بألتوسير بنقد فلسفة التنوير جملة بشقيها الليبرالي والماركسي، ونزع المصداقية عن مفاهيم كالتقدم وحركة التاريخ، والانتهاء بصيغ تبتعد كثيرا عن السياسة سواء في التنظير أو في الممارسة كما كان الحال مع تراث ميشيل فوكو ورولان بارت وجيل دولوز( ).على أن التحول في موقف اليسار من مفردات الديمقراطية الليبرالية أتى من تجارب أمريكا اللاتينية في السبعينيات والثمانينيات حيث شارك مثقفو وناشطو اليسار بتنويعاتهم المختلفة في النضال من أجل استعادة الديمقراطية والتعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان من النظم العسكرية القمعية التي سيطرت على غالب بلدان أمريكا اللاتينية في الستينيات والسبعينيات، ومع بداية التحول الديمقراطي أصبح اليسار في العالم بشكل عام أكثر تماهيا مع مطالبات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ثم أتت التسعينيات وانهارت النظم الشيوعية في شرق أوروبا ومعها الاتحاد السوفيتي وأتى التحول الرأسمالي متزامنا مع التحول الديمقراطي في إطار ما أسماه البعض بديمقراطية السوق Market Democracy ليفتح الباب أمام مزيد من التعقيد للظاهرة محل الملاحظة حيث تماشى انهيار النظم القمعية وانتشار نموذج الديمقراطية الليبرالية مع موجة عاتية من الإصلاحات النيوليبرالية تحت رعاية صندوق النقد والبنك الدوليين والمعونة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وهي الإصلاحات التي أطلقت العنان لقوى السوق محليا وعالميا مع حديث فرانسيس فوكوياما عن نذر نهاية التاريخ وانتصار الليبرالية بشقيها السياسي والاقتصادي ودخول عصر القطب الأوحد الأمريكي.لم ينه انهيار الكتلة الشرقية الإشكالات التي تواجه الديمقراطية الليبرالية على مستويي النظرية والممارسة ففي عالم يحكم أغلب سكانها نظم ديمقراطية، وإن كان توصيف الديمقراطية مقصورا على الجانب الإجرائي من حيث الانتخاب والترشيح الحر( )، تماشى توزيع الحقوق السياسية والمدنية على المواطنين مع ازدياد حدة التهميش الاقتصادي والاجتماعي واستمرار بل وتفاقم سوء توزيع الثروة والدخل بين الشمال والجنوب من ناحية وداخل الدول النامية ذاتها بإفقار مناطق وطبقات كالعمال وفقراء المدن والفلاحين ومجموعات إثنية ودينية بالإضافة لتدهور وضعية المرأة، وظهر جليا أن نظاما ديمقراطيا، من الناحية الإجرائية، قد يتعايش مع فقر مزمن وتهميش مبني على أسس عرقية وطائفية كما هو الحال في الهند، وكيف أن الممارسة الانتخابية وتعدد الأحزاب في الدول التي تعاني من فروق واسعة في توزيع الدخل بين الفقراء والأغنياء قد تتحول سريعا إلى مرتع للزبونية السياسية كما هو الحال في الأرجنتين والمكسيك والهند أو مناسبة لتصويت جماعي على أسس قبلية وعشائرية كما هو الحال في دول أفريقيا جنوب الصحراء ذات التقاليد الديمقراطية مثل غانا وكينيا وزامبيا، وظهر بجلاء كذلك أن إعادة توزيع الحقوق السياسية بين المواطنين قد لا يردع تدهور نصيب الفقراء من الدخل والثروة كما كان الحال في الأرجنتين وتركيا حيث تماشى التحول الديمقراطي في البلدين من 1983 مع تراجع نصيب الفئات الأفقر من الدخل القومي وتآكل الأجور الحقيقية للعمال وتوزيع الدخل القومي لأعلى، أي لصالح الفئات الأغنى، ولما لا فقد كان ذلك هو الحال في الولايات المتحدة وبريطانيا ذاتها منذ الثمانينيات حيث عانت الأغلبية من جمود في الأجور الحقيقية بينما ارتفع نصيب أغنى خمسة بالمائة من الدخل القومي، وقد بلغ الأمر ببعض باحثي الاقتصاد السياسي (أنظر بويكس 2004) أن افترضوا أن انتشار الديمقراطية في دول العالم النامي في الثمانينيات والتسعينيات قد حدث بسلاسة نتيجة ضعف تأثير هذه الحقوق السياسية على فرص إعادة توزيع الثروة لصالح الفئات الأكثر تهميشا حيث أدت عولمة أسواق المال إلى زيادة قدرة الفئات المالكة لرأس المال على تحريك رؤوس أموالهم بمرونة خارج حدود دولهم، ومن ثم انخفضت احتمالات استخدام الفئات الأكثر تهميشا للديمقراطية من أجل سن قوانين بضرائب على حاملي رأس المال بهدف إعادة توزيع الدخل لأسفل، ونتج عن ذلك وضع ضمنت فيه الحقوق السياسية للأغلبية، المهمشة اقتصاديات، بدون عواقب اقتصادية على الفئات الأغنى، وهو ما كان مثارا لصراعات سياسية في عقدي الستينيات والسبعينيات من قبل خاصة في أمريكا اللاتينية وسببا لإنشاء نظم سلطوية عسكرية تفرض صيانة النظام الرأسمالي باستخدام القمع.ثانيا: الحالة المصريةإذن فالديمقراطية الليبرالية ليست حلا لكافة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية خلافا لما يعتقده الأستاذ علاء الأسواني، فقد تكون هناك ديمقراطية ممثلة في انتخابات حرة وتعدد أحزاب وحرية رأي وتعبير بينما تظل الغالبية من السكان مهمشة اقتصاديا واجتماعيا، ويزداد وضع المرأة تدهورا، وتستعر الطائفية وتتأصل الزبونية والعصبية كأدوات للسياسة، وها نحن ذا قد رأينا على سبيل المثال أن الديمقراطية الليبرالية لا تحمل حلا تلقائيا أو جاهزا لقضية الطائفية في مصر، وأن مساواة جميع المواطنين أمام القانون بغض النظر عن الدين مسألة تشترط وجود الديمقراطية كخطوة أولى ولكنها تتطلب تأصل حقوق الإنسان ومؤسسات دولة الحق والقانون حتى تتحقق بالكامل، ولا عجب في أن مشكلات الأقباط إزاء الدولة في مصر والتي من نماذجها خضوع بناء الكنائس لقوانين مغايرة لتلك التي تنظم بناء المساجد، وقضايا الطلاق والزواج المختلط وحرية العقيدة قديمة قدم الدولة الحديثة في مصر، وتعود جذورها إلى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقد عاشت هذه المشكلات دون حل في خلال الفترة الدستورية الليبرالية (1923-1952) وتفاقمت في ظل نظام يوليو وتلوناته في عهدي السادات ومبارك، وقد يكون زوال نظام مبارك وانفتاح المجال أمام نظام أكثر تعددية وتمثيلية فرصة تاريخية لعلاج إشكال الطائفية ولكنه لا يحمل حلا فوريا أو مباشرا لها، بل وقد يحمل مخاطر عديدة للمواطنة في حال صعدت تيارات إسلامية لا تؤمن بقيم المساواة أمام القانون.وكذا الحال مع مسألة التهميش الاقتصادي والاجتماعي الذي يطال نصف إن لم يكن أغلبية سكان مصر ممن يعانون من الفقر المطلق أوالنسبي وتدني الرعاية الصحية والتعليم الحكومي والحياة في العشوائيات دون توفر الخدمات الأساسية وفي ظل غياب البنى الأساسية، فأنماط التهميش هذه سابقة على نظام مبارك بعقود طويلة، ولسنا نبالغ إن زعمنا أن جذورها ترتبط ببذور مشروع الحداثة في مصر في زمني محمد علي (1805-1848) والخديوي إسماعيل (1863-1879) والذي حمل بصمات دمج مصر في الاقتصاد العالمي آنذاك كمنتج للمواد الأولية وخاصة القطن، وما تلا ذلك من هجرة جارفة للمدينة في الثلاثينينات والأربعينيات وحتى الثمانينيات مما أعاد رسم حدود الريف والحضر، وأنتج المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي نعايشها اليوم، صحيح أن نظام مبارك قد أسهم في تكريس هذه الأنماط بفشل سياسات التنمية على مدى ثلاثين سنة ولكنه لم يخلق المشكلات من الأساس فغالبية سكان مصر في زمن الملكية الدستورية كانوا من المهمشين في الريف، ولم تغن عنهم ديمقراطية الأحزاب الفقر وعدم المساواة في توزيع ملكية الأراضي ومن ثم في الدخل القومي، وما من ضامن أن تؤدي الديمقراطية المحتملة في مصر إلى تحسين مستويات المعيشة للغالبية على نحو تلقائي أو أن تؤدي إلى توزيع أكثر عدالة للدخل والثروة، فلماذا تختلف مصر كثيرا عن سابقاتها من الدول النامية كالهند وغانا والأرجنتين وبيرو؟فما العمل إذن؟ ليس هذا النقد طعنا في فعالية أو شرعية التحول الديمقراطي أو دفاعا عن استمرار نظم قمعية لا هي حققت تنمية اقتصادية ولا هي حفظت للمواطنين كرامتهم، ولكنها تذكرة بالمشكلات الاجتماعية التي من المنتظر أن تواجه الديمقراطية الوليدة في بلد كمصر يقع في العالم النامي ويواجه تحديات ديمغرافية واقتصادية واجتماعية وبيئية كبيرة، إن قصر الديمقراطية على جانبها الإجرائي فحسب المتمثل في انتخابات حرة وتعددية حزبية وحرية الرأي والتعبير والإعلام لا يكون إلا تعريفا منتقصا ومحددا بموقف دوجمائي مسبق يعود لليبرالية القرن الثامن عشر التي لم تكن ترى سوى همها البرجوازي المتمثل في حقوق الفرد في الملكية الخاصة وفي الحماية والحرية الشخصيتين، وهي قراءة تجاوزها الليبراليون أنفسهم بحديثهم عن الديمقراطية الجوهرية Substantive democracy باعتبارها مفهوما أكثر اتساعا يراعي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية بجانب الحقوق السياسية والمدنية (أنظر مثلا أعمال جون رولز وأمارتيا سن)، والتي بدونها تصبح الأخيرة مجرد صناديق فارغة تملأها الرشى الانتخابية والتصويت الجماعي.إن اليسار المنشغل بقضايا العدالة الاجتماعية والمساواة القانونية يدرك جيدا أن النظام الديمقراطي يقوم على أسس اجتماعية أعقد من مجرد الافتراضات غير العملية التي تتحدث عن الفرد المجرد وحقوقه، فقد نبهنا الفيلسوف الاجتماعي أليكسي دو توكفيل في كتابه الشهير عن الأسس الاجتماعية للديمقراطية إلى أن استقرار الديمقراطية التمثيلية في الولايات المتحدة منذ القرن الثامن عشر كان راجعا للتجانس الاجتماعي بين المستوطنين البيض المكونين لسكان الدولة الوليدة آنذاك، وحصولهم على حصص متساوية من الدخل وغياب ميراث إقطاعي يقسمهم فئات خاضعة وأخرى غالبة كما كان الحال في أوروبا، وربط ذلك بعدم استقرار الديمقراطية في فرنسا لأن غالب سكانها من الفلاحين المنثورين في الريف، والذين لا يشاركون الكثير مع نخب باريس الثورية في القرن التاسع عشر.إن اليسار هو التقليد الفكري الوحيد القادر على صياغة رؤية أكثر شمولا ونقدية للتحول الديمقراطي في مصر بجلب الأبعاد الطبقية والجندرية ومن ثم قضايا التهميش الاقتصادي والاجتماعي إلى قضية الديمقراطية، وكسر التعريفات الإجرائية القاصرة نحو ديمقراطية اجتماعية وجوهرية، ومن ثم ربط التحول الديمقراطي بأبعاد أكثر إنسانية وأطر اجتماعية أعم وأوسع.إن موقفا يساريا إزاء التحول الديمقراطي يجب أن يجمع بين دعم التحول ونقده في الوقت ذاته، فالديمقراطية السياسية التي تقضي بتوزيع متساو لحقوق الانتخاب الحر والتعددية الحزبية وضمان حريات التعبير والنشر والاعتقاد خطوة أساسية لا غنى عنها في سبيل الديمقراطية الاجتماعية، وما من شك في أن الانفتاح السياسي وإطلاق حريات التنظيم الحزبي والأهلي والنقابي فرصة تاريخية لطرح اليسار الجديد لنفسه بصورة سياسية وجماهيرية، إن موقف اليسار من التحول الديمقراطي الحالي لا يمكن صياغته بمعزل عن الأسس الفكرية المبكرة له والتي تعود لمنطق فلهلم هيجيل الجدلي والذي بمقتضاه يصبح تحقق الديمقراطية السياسية تجاوزا لها نحو الديمقراطية الاجتماعية. |
|||
Copyright © 2011 البوصلة - All Rights Reserved Designed by Tony Kaldas |