الثورة المصرية فى معناها العميق تعنى فعلا جبارا واستثنائيا لإعادة صوت الشعب، إعادة السياسة إلى البلاد بعد أن حكمها نظام سلطوى أمنى لمدة ستين عاما إلا قليلا. عودة السياسة تعنى عودة الديمقراطية، أى صراع بين قوى سياسية مختلفة على تكتيل قطاعات من الرأى العام تكون هى مبرر الوجود فى السلطة لفترة إلى أن تتغير إرادة الأغلبية مرة أخرى.
السياسة ليست مجرد الأحزاب، بل تعتمد تماما على وجود مجال عام نشط وقوى من جمعيات ونقابات وأندية ومنتديات ووسائل إعلام وثقافة حرة. ويمكن اختصار هذا كله فى مبدأين: حق التنظيم السلمى بكل أشكاله وحق التعبير. ويقترن ذلك بالشفافية: شفافية السياسات وطرحها على الرأى العام، وحق الحصول على المعلومات، وحق المساءلة. ويعتمد هذا كله على مبدأ المواطنة: حق المواطنين المتساوى فى الكرامة والحرية بلا قيود، وحقهم فى الدفاع عن مصالحهم بالطرق السلمية.
فى إطار هذا التحديد يتعرض هذا المقال للوضع الراهن بعد شهرين حافلين من الثورة، يبدوان من فرط كثافتهما سنوات، ومن فرط تدفقهما لحظات. وسوف يتناول المقال هذا الوضع عبر ثلاث أجزاء: تحليل القوى القائمة؛ مهمات الثورة؛ الخلاصة العامة.
أولا، شبكة القوى
(1) قوى الثورة: حين قامت الثورة، لم يكن حق التنظيم والتعبير موجودا إلا بقدر محدود، وإن كان يتزايد بعنفوان. فقبلها، نشطت الإضرابات والاعتصامات، ولكنها كانت فئوية حصرا، وتشكلت نقابة واحدة مستقلة ولجان نقابية غير رسمية كثيرة، وتحررت بعض وسائل الاتصال والإعلام، وعلى رأسها الإنترنت، وتشكلت بعض الجمعيات المستقلة غير المعترف بها رسميا، وقامت منتديات عديدة غير رسمية، وصدرت مجلات مستقلة، وتحقق قدر من المساواة فى تعاملات الأفراد فيما بينهم فى الشارع بالمقارنة بالماضى، وإن كان ينمحى أمام سطوة الأمن ونفوذ “الكبار”. وكانت هذه التغيرات هى التى صنعت الثورة وساهمت فيها. وكان معظمها غير منظم.
أدى غياب التنظيم الواسع والرؤية السياسية المتفق عليها إلى الحد مؤقتا من طموحات الثورة. فبرغم أنها تطورت سريعا من الاحتجاج على الشرطة فى عيدها إلى خلع مبارك، كان مطلب “إسقاط النظام” غامضا، يدور عموما حول إسقاط دولة الفساد ومشروع التوريث والوجوه الشرسة الكئيبة والمطالبة ببديل يتميز بالديمقراطية والخبز والكرامة والعدالة. وأدى هذا كله إلى نجاح الانتفاضة، لا فى أن تقيم دولة ثورية جديدة، ولكن فى أن تفرض نفسها على النظام. انتقلت السلطة إلى الجيش بعد تحطم الشرطة، ووجد الجيش أن أفضل الحلول هى عزل مبارك وبدأ مرحلة انتقالية إلى المجهول. بذلك انتهت المرحلة الأولى من الثورة.
المرحلة الثانية هى مرحلة الانتقال إلى نظام ديمقراطى. وهى بطبيعتها مرحلة طويلة تجمع بين هدم بقية أركان النظام القديم وبناء النظام الجديد. هنا انكشفت مشكلة التنظيم المفقود بكل عمقها. وتعنى مشكلة التنظيم أيضا مشكلة إيديولوجية، لأن معناها غياب كتل فاعلة منظمة قادرة على الحشد والتعبئة وفقا لفكرة أو أفكار محددة يتفق عليها فصيل أو عدة فصائل سياسية وقوى اجتماعية منظمة. وكانت المحصلة أنه كان من الأسهل تحديد ما لا تريده قوى الثورة أكثر من تحديد ما تريده. وبهذا المنطق سقطت وزارة شفيق وتم اقتحام أمن الدولة فى نفس الوقت الذى كان يتخلص فيه من تقاريره، ويحتفظ بملفاته فى سراديب مجهولة.
(2) قوى الثورة المضادة: لم يكن النظام القديم مجرد مجموعة من الفاسدين. بل كان كتلة حاكمة لها امتداداتها العميقة التى تقوم على فساد معمم، وقبضة بوليسية قوية تحميها. العقيدة الأساسية للنظام، وبالتالى فلوله هى احتقار الشعب باعتباره عاجزا عن الحكم وميالا للفوضى ومنحطا أخلاقيا، الأمر الذى يبرر بالنسبة لهذا النظام سلطويته، التى كانت تقول من البداية أنها ستتولى “تنظيف” الشعب الفاسد العاجز بالتدريج. استمر هذا من عبد الناصر الذى وعد مجلس الأمة عام 1957 بأن ينشئ شعبا يقظا مدركا حيا، و”أفراد البشر هم المادة الخام، على حد تعبيره، إلى تصريحات نظيف الشهيرة عام 2006. كان هذا الاحتقار يبرر أيضا إهدار كرامة السكان باعتبارهم فى العموم حثالة. ومن خلال عمليات إهدار الكرامة والكلام عن معايير مثالية يجب أن تتحقق فى الشعب لكى يحق له أن يحكم، يتم تكريس الانحطاط أكثر فأكثر فى دائرة مفرغة: الاعتداء على كرامة الناس يصبح برهانا على أنهم يستحقون ذلك، وبالتالى مواصلة الاعتداء لتأديبهم، وهكذا.
ومن خلال انتشار الفساد (الذى يبرر للحكام مرة أخرى فكرتهم عن انحطاط الشعب) جرى بناء سلاسل من المصالح الفاسدة التى تم تدعيمها فى مختلف مؤسسات الدولة برواتب سخية بشكل غير عادى ومكافآت واختلاف الأجر عن العمل الواحد وفقا لرضى الرؤساء، والتلاعب فى المناقصات والمزايدات والأعمال عموما، واستعمال شبكة النفوذ فى منافسات القطاع الخاص الذى خضع فى مجمله لشبكة الفساد، قهرا أو استفادة، وصولا إلى خلق طبقة من كبار رجال الأعمال بقرارات سلطوية.
هذه الشبكة دعمها قيمة احتقار الشعب، التى كانت تتمثل بأفظع أشكالها فى الابتسامة الصفراوية لمبارك فى لقاءاته “الجماهيرية”. ودعمها تاريخ طويل من الحكم السلطوى الذى يشكل بحد ذاته اعتداء على كرامة وحرية أى شعب. هذا التاريخ صنع نفسية عامة من انعدام المسئولية وعدم القدرة على المبادرة والخوف من المجهول والاحتقار الذاتى (“أصل احنا شعب وسخ”، الخ)، تشكل أساس كل حكم سلطوى وتشكل أساس “حزب الكنبة” الحالى، الذى يرددها سرا حتى الآن بلا شك. وهى قيم تتناقض على طول الخط مع قيم الثورة.
ولما كان قوام قوى النظام هو الخوف والطاعة وانعدام المسئولية، لم تتمثل قوى الثورة المضادة فى احتجاجات مضادة، بل فى استعمال العنف الذى يموله الكبار (تأجير البلطجية) أو تقوم به الأجهزة السلطوية نفسها (خطة التفريغ الأمنى والترويع التى نفذها حبيب العادلى وما زالت عناصر أخرى تنفذها). وتتمثل من جهة أخرى فى “حزب الكنبة”. ترتب على ذلك أن قوى الثورة المضادة ظلت عاجزة عن بناء نفسها سياسيا، بإقامة حزب رجعى، لأن منطقها الرجعى هو منطق الدولة الأمنية، أى إلغاء السياسة أصلا وابتداء، لا منطق القوى الرجعية التى تنظم نفسها سياسيا فى نظام ديمقراطى. وطريقتها هى أن تحاول تحقيق أكبر قدر من تآكل قوى الثورة ببطء، ولكن بانتظام، باستدعاء كل مقولات الفزع من “الفوضى” مقابل “الاستقرار والإنتاج”.
بهذا المنطق يعتبر تنظيم الرجعية لنفسها حزبيا، بشكل شفاف ومنفصل عن أدوات العنف الرسمية وغير الرسمية (البلطجية)، إذا تحقق، وبقدر ما يتحقق، نصرا لقوى الثورة بقدر ما هو خطوة تواكب إحلال نظام سياسى محل النظام الأمنى. لكن هذه الخطوة نفسها لن تلجأ لها الرجعية إلا اضطرارا.. أى بقدر ما تستطيع قوى الثورة أن تفرض بناء مجال سياسى.
بنفس المنطق، تفضل الرجعية أن تعيد تنظيم جهاز الشرطة (شاملا أمن الدولة) بشكله القديم، باعتباره العامود الأساسى للدولة البوليسية، الذى ينشر الإذلال والخوف العام فى كل مكان، ويدعم ممارسة سلطة الطبقات العليا لامتيازاتها بتخويف المتضررين وإهانتهم، لا بمجرد القانون الذى يحمى الملكية الخاصة مثلا. الدولة البوليسية ليست فى النهاية سوى “حق” الإذلال. القوة البدنية والإيذاء البدنى فى أحط أشكاله. سلطة تشل العقل بتهديد الجسد. بهذا المنطق رحبت الرجعية بالتصرفات الوحشية للشرطة العسكرية.
(3) الجيش: هو الشريك الثانى فى الثورة بحكم الأمر الواقع، شريك ورطته وتورطت معه قوى الثورة. الجيش جزء من النظام القديم، وهو داخل فى علاقات معقدة معه، خصوصا من خلال اضطلاعه بأعمال مدنية مثل البناء وغيره. وهو أيضا جيش من المجندين وضباطه من عموم الطبقة الوسطى.
الجيش كمؤسسة يعتمد بقاؤه على نفاذ سلسلة الأوامر من أعلى. جانب مهم من قرار الجيش بالحلول محل الرئيس وإزاحته هو الحفاظ على نفسه كمؤسسة تعرضت لضغط عنيف من قوى الانتفاضة استشعر قادته بحكمة أنه يهدد تماسكها. ومن الطبيعى بعد عزل مبارك أن يسعى الجيش، بإملاء من قيادته، إلى عزل نفسه عن تأثيرات الانتفاضة الديمقراطية التى دفعته إلى تولى السلطة. فالعدوى الديمقراطية غير مناسبة لجيش مبنى على سلطوية داخلية تفوق المعتاد فى معظم الجيوش. وبالتالى ثمة بذرة من العداء لمنطق الانتفاضة، وأحيانا رؤية انتقاصية وعدائية تجاه الثوار، كما يتضح من شهادات من اعتقلتهم الشرطة العسكرية وعذبتهم.
بالمقابل، تدل الشواهد على أن الجيش، كمؤسسة، كان بدوره ساخطا على مشروع التوريث وعلى استفحال سطوة الدولة الأمنية، التى أصبحت أشبه بتشكيل مافيوى أو عصابى يرعاه مبارك. كما أن سقوط النظام المافيوى، سواء بهزيمة الشرطة أو بإسقاط الفرعون والوزارة القديمة، قد خلق فراغا فى السلطة. سقطت طريقة قديمة فى الحكم، برغم بقاء بعض أسسها، ولم تتشكل الطريقة الجديدة كقوى منظمة (أقصد الطريقة القائمة على رباعى مبادئ الحرية والكرامة والخبز والعدالة الاجتماعية). فى كل الأحوال أصبح أمام الجيش بعد استلامه السلطة مهمة إعادة بناء الدولة بشكل مختلف بعد سقوط القيم التى قام عليها النظام القديم ورموزه وبعض من قواه. ولما كان الجيش لا يستطيع أن يستمر فى السلطة فى صورة مجلس أعلى طويلا (لأسباب كثيرة، منها أنه يتولاها فى أعقاب انتفاضة مظفرة ولأنه تولى السلطة كهيكل تنظيمى عسكرى، لا كتنظيم عسكرى سياسى، ولأن ثمة خطر دائم طالما لم تستقر الأوضاع فى قيام محاولات انقلاب)، فإن عليه أن يسلم السلطة إلى دولة “مدنية” ما، يكون له نصيب من النفوذ داخلها، بغير أن يتولى الحكم مباشرة.
وسط هذه الاعتبارات، يمكن القول بأنه بقدر ما تبدو الانتفاضة متراجعة، بقدر ما سيميل الجيش كمؤسسة، بصرف النظر عن آراء ضباطه المتفاوتة، لتهدئة الحركات الجماهيرية بالعنف، على الأقل لتحقيق “الاستقرار”. بالمقابل، بقدر ما سيبدو العنف باعثا على احتجاجات ومواجهات شعبية ومن الطبقة الوسطى، خوفا على مكاسب الثورة، بقدر ما سيرتبط الاستقرار الذى ينشده الجيش بإجراء تحول ديمقراطى بدرجات ما. وبصفة عامة سيميل الجيش لاستغلال أية فرصة للحفاظ على ما تبقى من النظام القديم، خوفا من المجهول على الأقل.
ولعل الواقعة الأكثر كشفا لهذا الميل المحافظ هو فض الشرطة العسكرية لاعتصام جامعى بالقوة، برغم أنه لا يرتبط بأى شكل مباشر بالمشكلة الاقتصادية. ويبدو بالتالى أن الهدف هو العمل على تحقيق “الاستقرار” بالمعنى السلبى للكلمة، أى استقرار لصالح قوى الثورة المضادة، على أساس القدرة على الإيذاء البدنى والإهانة وإعادة مركب الخوف مرة أخرى. ويعتبر مشروع قانون الاعتصامات الأخير محاولة لتدعيم بقاء قوى النظام القديم فى مختلف المواقع.
هذا لا يعنى أن الجيش يرمى لإعادة نظام مبارك بدون مبارك كما يقال. فصعوبة أو استحالة إعادة النظام القديم، فضلا عن انكشاف قصوره الفادح، تجعله يميل إلى إعادة بعض أساليب التخويف والعنف لتعمل كإطار لنظام سياسى تعددى إلى حد ما، يفسح مجالا أكبر لفساد النظام القديم وتربيطاته غير السياسية… على أن تكون لها بطبيعة الحال واجهة سياسية.
لكن لعل أهم ما يدل على الميل المحافظ للجيش انعدام شفافيته السياسية. فبنفس الطريقة التى كان النظام السابق يدير بها البلاد سرا بتفاهماته الخاصة بين أجهزته الأمنية، لم يفصح الجيش إلا عن القليل عن نواياه بشأن إدارة المرحلة الانتقالية، أو مبررات اتخاذ هذا الإجراء أو ذاك. لدرجة أن النتائج التى ستترتب على الاستفتاء لم يتم الإعلان عنها بشكل رسمى. وبنفس المنطق يبحث المجلس الآن إصدار إعلان دستورى من خلال مناقشات لا يعلم الجمهور عنها شيئا.
من الطبيعى أن يحاول المجلس العسكرى الاحتفاظ بكل الأوراق والخيارات بين يديه. غير أن هذا يعنى أن الجيش منفصل عن قوى الثورة وأن علاقته بالثورة أيا كانت لا تقوم على التعاون. الأمر الذى يعنى بدوره أن مخاطبة الجيش بشكل فعال لا تكون إلا من خلال تدعيم الحركة الثورية المستقلة، وتشكيل قياداتها بالتدريج قبل أن يمكن إجراء أى تفاهمات بشأن المستقبل.
(4) الأخوان والتيارات الإسلامية والكنيسة: أثبت الاستفتاء، سواء بنعم أو لا، الحضور القوى للتيارات والمؤسسات الدينية.. وهو حضور معادٍ بطبيعته ذاتها لفكرة المجال السياسى الديمقراطى. ومثال الاستفتاء كاشف فى هذا الصدد. فبدلا من أن يُستَفتَى الناس على مواد الدستور المعدلة، أصبح الاستفتاء يتعلق بالموقف من الأديان المختلفة.
منذ البداية كان موقف الكتل الدينية جميعا من الثورة شائكا، تراوح بين الإدانة والتنصل والسماح بالمشاركة الفردية. وحين فرضت الانتفاضة نفسها على الجميع أخذت المؤسسات والقوى الدينية تغير مواقفها وتقبل المشاركة أو تعترف بالثورة. فنظرا لأن مبادئ الانتفاضة، خصوصا الحرية، تتعارض بدرجة كبيرة مع مبادئ المؤسسات والقوى الدينية، دخلت هذه القوى فى مشكلة داخلية، بين أعضائها الناقمين على الحكم الاستبدادى، والمتحمسين للمشاركة الجماعية المفتوحة فى الانتفاضة، وبين المبادئ التى قامت عليها هذه المؤسسات، سواء كانت طاعة الحكام، أو أهمية المحافظة على التمييز الدينى، أو الدفاع عن مبدأ وجود مقدسات تعلو على الإرادة الشعبية ويجب عدم المساس بها.
كان الأخوان أسبق الجميع للمشاركة فى الثورة، بسبب وضعهم الخاص. فالأخوان يقعون على التخوم الفاصلة والواصلة بين الدين والسياسة، الأمر الذى أوقعهم على مدى تاريخهم فى تناقضات عميقة واختيارات صعبة. فمن جهة، يقوم التنظيم على مبادئ السمع والطاعة والقداسة التى تشكل أساس إيديولوجيتهم، كما يعمل بنفس طريقة النظام الزبونية التى تقوم على أداء خدمات والحصول على ولاء غير سياسى، بما يعنى أن طريقتهم وثيقة الصلة بإفقار المجال السياسى ككل وبنظام الحكم السلطوى من حيث المبدأ. لكن من جهة أخرى تبين دروس التاريخ أن السلطوية مبدأ لا يعمل غالبا لصالحهم، بل لصالح قمعهم فى النهاية. وفى هذا الصدد توصل التنظيم ككل على مر الزمن إلى قبول مبدأ التعدد الحزبى غير المشروط بالنزعة الإسلامية، ومبدأ تعدد القوى الإسلامية، وحق المشاركة السياسية لغير المسلمين، باستثناء رئاسة الدولة.
تكمن المشكلة فى أنه لا يمكن تأسيس دولة حديثة على أساس دينى، لأسباب يطول شرحها. فوق ذلك، من الوجهة العملية تعلم الأخوان بالتجربة وبقراءة التوازنات العالمية والإقليمية والمحلية أن مشروع إقامة الخلافة مستحيل، وأن التمسك به سيكون كارثيا بالنسبة لهم، مكتفين بفكرة أسلمة الدولة الوطنية الحديثة نفسها فى حدود ما هو متاح بفعل التوازنات المذكورة.
لكن الانتقال إلى تدعيم إصلاح ديمقراطى عميق فى العقيدة صعب على الأخوان. فالعلاقة بين السياسة الحديثة والعقيدة أبعد ما تكون عن الوضوح، وبالتالى ينعدم احتمال اشتقاق موقف سياسى من العقيدة مباشرة. يترتب على ذلك أن الأخوان لكى يحافظوا على وحدتهم فى حالات الأزمة التى تطرح اختيارات سياسية كبرى، يلجأون إلى مبدأ السمع والطاعة، الذى يعنى التعامل مع التنظيم كما لو كان طائفة دينية، ومحاولة تديين الاختيارات السياسية. هذه الفكرة قد تبدو غامضة نوعا، ولكنها تتضح حين نرى تطبيقها فى الاستفتاء الأخير. فلما كان يصعب اشتقاق موقف من التعديلات الدستورية من العقيدة بأى شكل واضح، لجأ الأخوان إلى طرح الموقف من الاستفتاء كموقف من المادة الثانية غير المطروحة للاستفتاء أصلا، وطرحوا الاستفتاء بنعم كواجب دينى. لأنه بغير هذا التديين وهذا “التطييف” لا يوجد أساس واضح يجعل اختيارا سياسيا ما ملزما للأعضاء الذين تم جمعهم أصلا فى إطار مشروع للتربية الدينية الإسلامية. كما لا يمكن التعايش بسهولة مع مبادئ الحرية والكرامة التى كانت عنوان الثورة.
الخلاصة أن الأخوان، مثل الجيش، يقفون بقدم فى الثورة وبقدم أخرى فى الثورة المضادة. فالانتفاضة خلصتهم من حكم انصب قمعه عليهم بدرجة أكبر بفعل كبر حجمهم التنظيمى. ولكن مبادئ الانتفاضة لا يمكن دعمها للنهاية لأنها تهدد تماسكهم التنظيمى والعقائدى. طرحت الانتفاضة بقوة على العناصر الأكثر تقدما وتحررا من الأخوان القضية المعلقة منذ زمن، الخاصة بالحاجة إلى إجراء إصلاحات عقائدية رئيسية تقبل بوجود الدين كعقدة أو كنقطة أو كمسار فى سياق سياسى لا يؤسسونه ولكن يتيح لهم العمل داخله بغير أى امتياز خاص. ولما كان هذا صعبا، خاصة فى مدة قصيرة، انجرف الأخوان واصطفوا إلى جانب القوى المحافظة لشق صفوف الانتفاضة، مخاطرين بأن يُستهدفوا فى مستقبل ليس بعيدا مع ابتعادهم عن القوى الديمقراطية.
بالمثل، فجرت الانتفاضة إمكانية انتقال قطاعات من الأقباط للسياسة بتياراتها بالمخالفة للموقف السلبى للكنيسة، والذى لم يصدر رسميا خلافه حتى الآن. غير أن الصعود الكبير للتيار الإسلامى فى الاستفتاء، والحالة الطائفية العامة من شأنها أن تعيد تكتيل قطاعات كبرى من الأقباط حول الكنيسة بتصوراتها السياسية الرجعية مرة أخرى. الخيار الأساسى للتيار المسيحى المحافظ هو الدولة السلطوية الحامية، لأنه يحافظ على مكانة الكنيسة كممثل رسمى وحيد للأقباط، فضلا عن أنها، مثل كل التيارات المحافظة، كحزب الكنبة، تفضل الخضوع لجهة وحيدة تتولى القمع والقهر. وإذا تطلب الأمر، يمكن أن تقبل الكنيسة والتيارات المحافظة فى النهاية إجراء صفقة مع الأخوان أنفسهم، إذا تبين رجحان كفتهم. بالمقابل، تميل التيارات المسيحية الأكثر تحررا إلى الاندماج فى عملية سياسية ديمقراطية بوصفها المخرج التاريخى من التمييز الدينى والأقدر على تأسيس دولة تقوم على المواطنة حقا وفعلا.
فى كل الأحوال، أى تكتل مسيحى أيا كان اتجاهه هو تكتل طائفى بالتعريف، وبالتالى لا يمكن التعويل على مساهمته كتكتل فى عملية بناء دولة ديمقراطية تقوم على مبدأ المواطنة. غير أن المسيحيين المصريين، بحكم ما يعانون منه من تمييز دينى بمختلف أشكاله من المتوقع أن تساهم قطاعات منهم بقوة فى مساندة القوى الديمقراطية، بقدر ما تثبت هذه القوى جديتها وقوتها.
ثانيا، مهمات الثورة ومحاورها
بناء على هذا التحليل العام للقوى القائمة، يمكن القول بأن القضية الأساسية التى بدأ بها هذا المقال، أى إحلال الدولة الديمقراطية محل الدولة البوليسية، رهن بإنجازات التيارات الديمقراطية، وبصفة خاصة تيار الديمقراطية الجذرية، على مستوى الدعاية والتنظيم وذكائها السياسى.
وتتطلب مواجهة هذه القضية بناء تصور واضح بشأن ثلاثة مهام محورية؛ هى الأمن والاقتصاد والسياسة بالمعنى الضيق، أى الدستور المنتظر ومؤسساته وخطوات بنائه. وبالتوازى، التحرك عمليا على ثلاثة محاور متشابكة: أولها بناء دولة ديمقراطية، وثانيها بناء التحالف الديمقراطى القادر على بناء هذه الدولة، وثالثها بناء التيار الديمقراطى الجذرى، القادم من اليسار، باعتباره التيار الأقدر على إنجاز هذا التحالف بحكم موقعه فى ملتقى طرق كل التيارات الديمقراطية. وسوف أتناول أولا العلاقة بين المحاور الثلاثة لأصل إلى اقتراحات بشأن المهام الثلاث المحورية.
إذا كانت المهمة المحورية هى بناء مجال سياسى كان مفقودا قبل الثورة، فإن كل ما يفيد فى بنائه يصب فى مصلحة الثورة الديمقراطية، بما فى ذلك دفع المصالح التى تحلقت حول النظام السابق لممارسة السياسة بدلا من التآمر لإعادة المجال الأمنى الذى تفتقده. وبنفس القدر اجتذاب الأخوان أو القطاعات الأكثر تقدما منهم للالتزام بدعم إقامة نظام ديمقراطى، وإتاحة الفرصة أمام المسيحيين المصريين للخروج من الإطار الطائفى، وأخيرا الضغط على المجلس الأعلى الحاكم والحكومة لإبداء مرونة أكبر فى اتجاه إتاحة الفرصة للتغيير الديمقراطى.
غير أن هذا كله يعتمد بالدرجة الأولى على درجة بناء القوى الديمقراطية وتحالفاتها. وتحتل التحالفات الواسعة بين قوى الثورة على اختلاف توجهاتها السياسية التفصيلية والإيديولوجية أهمية محورية فى عملية البناء هذه. بعبارة أخرى، يجب أن تُبنى تنظيمات الثورة، من اليسار إلى القوى الليبرالية والإسلاميين الديمقراطيين فى إطار من التحالف من أجل إقامة نظام ديمقراطى. وقد يساعد على ذلك واقع أن بناء المؤسسات السياسية سيعتمد فعليا بسبب ضعف تنظيم قوى الثورة حاليا على التمثيل من أعلى، بمعنى التجمع حول شخصيات تمثل الثورة وتطرح رؤية لكيفية إنجاز الانتقال والتقدم للترشيح فى الانتخابات الرئاسية. لكن هذا التجمع فى حد ذاته لن يتحقق بشكل فعال يسد الفراغ السياسى إلا بقدر ما يكون تجمعا لأنشطة تنظيمية سياسية واجتماعية، تعمل على الأرض، وتحاول أن تتوسع لتشمل مختلف مناطق البلاد.
وتتوقف قدرة التيار الديمقراطى الجذرى على المساهمة الفعالة والضرورية فى بناء هذا التحالف على نشاطه فى الحركة على مستويين متوازيين ومتكاملين: التحرك من أجل بناء قوة على الأرض فى طول البلاد وعرضها، تعتمد على القوى والأفراد الذين شاركوا فى الثورة والمشاركة فى أنشطتهم المحلية والفئوية؛ وفى نفس الوقت إقامة وتقوية الروابط مع التنظيمات الديمقراطية الأخرى، يسارية وليبرالية وإسلامية، وبصفة عامة كل التيارات صاحبة المصلحة فى عدم عودة النظام الأمنى بشكل جديد.
فى هذا السياق، يحتل الأخوان وضعا حرجا. فهم يتحركون حاليا فى اتجاهين متضادين. فالتحالف الانتخابى مع السلفيين وبقايا الوطنى فى الاستفتاء الأخير، حتى لو لم يكن منظما أو بناء على اتفاق، يكشف عن الميل الكامن عند الأخوان لإفقار المجال السياسى وعن المبادئ السلطوية الكامنة فى طرائقهم. ومن جهة أخرى، سعى الأخوان بمجرد تحقيق هذا “الانتصار” إلى بناء وقيادة تحالف ديمقراطى من أجل الانتخابات المقبلة، وهو ما لم تقبله القوى الحية الفاعلة بعد موقفهم المخزى فى الاستفتاء. ويهدد الوضع بأكمله باستعمال الأخوان كمخلب قط فى شق صفوف الثورة، إلى حين مجىء ساعة حسابهم على يد من سيستعملونهم. ولكنه بالنسبة للأخوان يهدد أيضا بدفع الاستقطاب داخل صفوفهم بين القوى الأكثر محافظة والقوى الأكثر ديمقراطية مع اتضاح الأبعاد الكارثية لسياستهم المكشوفة ذات الوجهين.
لا يمكن القول بأن دفع استقطاب الأخوان الداخلى إلى حد الانشقاق هو بالتأكيد فى مصلحة الديمقراطية الآن. فقد يكون من شأنه توثيق تحالف الكتلة الأكبر من الأخوان مع السلفيين وبقايا النظام. وبصفة عامة يعمل المناخ العام فى اتجاه إضعاف كل من يفتت صفوف القوى السياسية، بفعل طبيعة مهمة بناء المجال السياسى التى تدفع نحو التحالف. لكن هذا لا يمنع من أن تحييد أو تعديل موقف الأخوان يتطلب الضغط عليهم ببناء التحالف الديمقراطى وفضح مواقفهم مع إبقاء الصلة مفتوحة معهم ومع القوى الديمقراطية الشبابية فيهم بالذات. وقد يساعد على الإبقاء على التحالف الثورى إدراك بعض قيادات الأخوان لخطورة فصم التحالف مع القوى الديمقراطية على مستقبل تنظيمهم بصفة عامة، على غرار ما حدث فى مارس 1954 حين دفعوا الثمن غاليا بعد اختيارهم التحالف مع السلطوية.
*
أما فيما يتعلق بالقضايا الثلاث، السياسية والاقتصادية والأمنية، فإن القضية السياسية الجوهرية هى الانتقال الديمقراطى نفسه. تتمتع القوى السياسية والاجتماعية حاليا بقدر واسع من حرية الحركة، مصحوب بتسيس متزايد. وتستشعر القوى المحافظة والجيش أن هذا الفائض من التسيس يشكل خطورة عليها، وتسعى إلى الحد منه أو تحجيمه بالتدريج. وبينما يتجه مشروع قانون الأحزاب إلى الحد من تأسيس أحزاب دينية، فإن مشروع قانون التظاهر بتفسيرات مختلفة له يحاول أن يحد، جنبا إلى جنب مع تصرفات الشرطة العسكرية، من التحرك الديمقراطى المستقل. ويوضح طرح مشروعى القانونين معا تبلور مؤقت لرغبة فى إقامة مجال سياسى، نعم، ولكن محكوم ومعزول عن الحركات الجماهيرية التى نجمت عن الانتفاضة (وكانت لها بوادر كثيرة قبلها).
هذه الرغبة لا يمكن عزلها عن الطريقة العامة التى يتصرف بها الجيش فى السلطة، والتى تكمن فى أساس هذا السلوك. هذه الطريقة هى استبعاد السياسة من المجال العام وحشرها فى مجال سرى مرة أخرى. فالمجلس العسكرى يستشير، أو يصدر قرارات، أو يجرى مفاوضات قد تكون سرية مع قوى معينة. لكن لا توجد خريطة طريق معلنة، ولا يوجد شريك مدنى فى السلطة.
وفى هذا الصدد، تجب المطالبة على أقل تقدير بتشكيل مجلس مدنى من شخصيات عامة موالية للثورة وذات خبرة لإدارة مؤسسة رئاسة الجمهورية، ككيان مؤسسى، سواء فى إطار فكرة تشكيل مجلس رئاسى مدنى أو مدنى عسكرى، أو حتى بغير هذا الإطار، لمنع تحول مؤسسة الرئاسة إلى بؤرة سرية للثورة المضادة.
وفى مواجهة انتهاكات الشرطة العسكرية لكرامة الأفراد وحريتهم، يجب التمسك بالحفاظ على كرامة المواطن كمبدأ أساسى من مبادئ الثورة، وخطا فاصلا بين الثورة ومبدأ حكم الطوارئ أو الدولة البوليسية. هذه المواجهة يجب أن يتم حسابها جيدا فى كل لحظة. وأقترح فى هذا الصدد ضرورة مراعاة جانبين أساسيين: أولهما أنه يجب ألا تُمتص قوى الثورة فى هذه المواجهة لأن هذا يعنى تحولها إلى موقف دفاعى بدلا من الهجوم على مؤسسات النظام البائد. وثانيهما أنه يجب فى اللحظات المناسبة الانتقال إلى الهجوم فى هذه القضية، وصولا إلى مساءلة قانون القضاء العسكرى نفسه، وبصفة خاصة فى أوقات السلم.
وبالنسبة لحكومة شرف، قد يقال أنها تمثل الشريك المدنى للجيش فى السلطة. لكن وضع هذه الحكومة أصبح إشكاليا، لأنه أصبح يعكس، ولو جزئيا، محاولة إغلاق المجال السياسى مرة أخرى لتصبح القرارات من شأن حكومة معزولة واقعة تحت سيطرة الجيش. لذا ربما كان من النقاط الجوهرية فى تحركات القوى الديمقراطية التأكيد على أن هذه الحكومة أتت من الشارع، وبموافقة عامة من قوى الثورة.
لكن ترد هنا ملاحظتين. أولهما أن حكومة شرف أتت من الشارع بتفويض عام، وليس بناء على اتفاق على أى برنامج بعينه. كما أنها تحتوى على بعض العناصر التى تنتمى قلبا وقالبا للنظام القديم. الأهم من ذلك أن ما قد نسميه برنامجها، المستقى من تصريحات الوزراء، يرمى فى مجمله إلى ترميم أجهزة الدولة، شاملة الاقتصاد، أكثر منه إجراء تغيرات أساسية فى بنية الدولة. بهذا المنطق، وأيا كانت النوايا الحسنة وراءه، يرمى نشاط الوزارة فى النهاية إلى استعادة ما قد نسميه “الإيقاع الطبيعى”، أو “إنقاذ الاقتصاد”، أكثر مما يرمى إلى تطهير جهاز الدولة من الالتواءات الفادحة داخله، التى نجمت عن عقود الديكتاتورية والفساد، مع الإقرار بأن هذه المهمة معقدة ولا يمكن إنجازها بشكل فورى.
ويبدو لى أن المشكلة ليست فى حكومة شرف فى حد ذاتها، لأنه من الطبيعى أن تخضع أية حكومة فى الأوضاع الحالية لضغوط الجيش الممسك بحقوق السيادة، بل المشكلة فى عدم بلورة ضغط منظم له مطالب وشعارات محددة يساند بها هذه الوزارة، من جهة، ويضغط من أجل التخلص من بعض عناصرها المحافظة، من جهة أخرى. وفوق ذلك أن يدفع بها إلى مزيد من الشفافية. ويمكن فى هذا الصدد طرح المطالب الآتية ومحاولة بلورة موقف سياسى واضح وقوى بصددها:
- التطهير: رفض إعطاء أولوية مطلقة لاستعادة عجلة الإنتاج بأى ثمن ولو كان الاحتفاظ بنفس التراتب السلطوى القديم، ونفس الفوارق غير المنطقية فى الأجور التى تعنى عمليا تعزيز الديكتاتورية فى كل مؤسسات الدولة بسياسة فرق تسد، فضلا عن إثارة الأحقاد بين العاملين فى المؤسسات المختلفة. على الأقل يجب أن يحظى التطهير بأولوية موازية.
- تشكل لجنة لإعادة هيكلة الأجور والبدلات والمكافأت فى مؤسسات الدولة وفقا لمعايير موضوعية وإتاحتها بشفافية. ومؤقتا إلغاء التشويهات الأخيرة فى هياكل الأجور الموجودة فى قرارات حكومة نظيف.
- حل المجالس المحلية القائمة والتحفظ على أموالها إلى حين انتخاب غيرها، وإحالة كل حالات الاشتباه فى الاختلاس وإهدار المال العام للتحقيق.
- الشفافية: باعتبارها أساسا ضروريا لأية حكومة تدعى تمثيل الثورة فى الظروف الحالية، سواء بإصدار التصريحات بشأن السياسة العامة للوزارة بصفة دورية، أو باللقاء مع مختلف القوى السياسية بمجرد فتح الباب لتشكيل أحزاب.
- إيقاف العمل بالقوانين غير الديمقراطية أو بعض موادها كلما أمكن وإحالة ما تنظمه إلى الجمعيات العمومية المعنية: مثلا عمال مصنع، أعضاء هيئة التدريس فى جامعة، إلى آخره، بما يفتح المجال أمام حل التنظيمات السلطوية مثل النقابات العمالية البوليسية، وانتخاب غيرها، وإيقاف الدعم المالى الحكومى للمنظمات السلطوية من قبيل اتحاد العمال.
- قانون أحزاب ديمقراطى يشتمل على حل أحزاب الاتحاد الاشتراكى السابق وتسليم مقراتها باعتبارها ممتلكات حكومية.
- إصدار قرارات بإجازة عمليات الانتخاب فى كل موقع تتوافر فيه قوى ثورية تطالب بها وتملك إجرائها، حتى لو تطلب الأمر تشكيل أمانة أو هيئة أو وزارة مصغرة لهذا الغرض.
ويتطلب هذا كله توافر قوى الضغط السياسى من خلال نشاط الحركات الجماهيرية المطالبة بالعدالة والمساواة. وفى نفس الوقت ربما يجب على القوى الديمقراطية توجيه هذه الحركات نحو ما هو أبعد من رفع مظالم، أو، وهو الأسوأ، المطالبة بالمساواة فى امتيازات هى فى جوهرها غير مشروعة، أو مضرة بالجمهور. وأقترح فى هذا الصدد محاولة بلورة الحركات المطلبية حول شعار الحدين الأدنى والأقصى للأجور، فضلا عن إعمال مبادئ الإدارة الديمقراطية والشفافية. والمبدأ الحاكم لهذا التحرك أن التخلص من الديكتاتورية يعنى تحمل المسئولية بدلا من القوى السلطوية، بما يتضمن الحفاظ على المؤسسات وتطوير عملها أو إحلال غيرها محلها.
وربما يتطلب تحقيق ديمقراطية الإدارة أيضا تنظيم الضغط على هذه المؤسسات من خارجها، أى تعبئة المنتفعين والمطالبة بإشراكهم فى الإدارة، أو شفافية الإدارة على أقل تقدير، لكى لا تؤول المطالبات إلى “ديمقراطية التحكم فى الجمهور” المنتفع بمؤسسات الدولة، الأمر الذى من شأنه أن يفتح الباب لإجهاض محاولات العاملين أنفسهم. وهنا يجب أن نلاحظ أن قطاعات عديدة من أجهزة الدولة تتصرف بشكل معادٍ للجمهور، والجمهور الفقير بالذات، منذ زمن بعيد. والملاحظ أن النشاط الإضرابى والاحتجاجى فى كثير من الحالات بعيد عن الاهتمام بإجراء أى إصلاح حقيقى للمؤسسات، اكتفاء بالمطالبة بمكاسب، مشروعة كانت أو امتيازات.
وفى هذا الصدد، قد تلعب منظمات المجتمع المدنى التى تمارس نشاطها فى المجال الاقتصادى والاجتماعى دورا مهما فى صدد تعبئة الجمهور المستفيد. والهدف هنا هو الإدارة الديمقراطية التى تكفل تقدير متوازن للظروف والأطراف المختلفة، بما يفتح الطريق أمام إدارة سليمة، لا مجرد مطالب اقتصادية جزئية قد تكون متنافرة فى كثير من الأحيان.
النقطة الجوهرية حقا فيما يتعلق بالاقتصاد، الذى يتحسن بسرعة هائلة كما نرى الآن، هو العدالة الاجتماعية. يقوم النظام الاقتصادى الحالى على تهميش واسع، سواء فى المدن أو فى الريف، أو بصفة عامة فى علاقة الأقاليم بالمدن الكبرى. وسوف تشهد الشهور القادمة عملية تسيس تزداد اتساعا فى الأوساط المطحونة وفى الأقاليم. والتحدى الحقيقى هو إبداع مداخل سياسية من أحزاب ومنظمات اجتماعية تستوعب هذه القوى وتتيح لها فرصة النضال من أجل حقوقها داخل مجال ديمقراطى.
بنفس المنطق الذى لا يمكن فيه تصور ديمقراطية تقوم على قمع الأخوان، لا يمكن تصور قيام ديمقراطية تقوم على ضرب عملية التسيس بين الفئات الاجتماعية الأفقر. فاليد التى ستضربهم، إذا كان لديها فرصة أصلا، ستخلق ديكتاتورية كاسحة ستبدو بجانبها ديكتاتورية مبارك مزاحا بريئا. ومعنى ذلك أن على اليسار وكافة القوى الديمقراطية أن يضعوا فى مقدمة برامجهم إعادة توزيع الثروة بين القاهرة والأقاليم، وإعادة توزيع أعباء الضرائب وتوجيه حصيلتها، وإعادة توزيع الدعم الذى يصب جانب معتبر منه الآن جيوب الطبقة الوسطى.
وسوف يواجه اليسار بطبيعة الحال مقاومة كبيرة من الطبقة الوسطى عالية الصوت، خاصة أن قطاعات معتبرة منها شديدة الأنانية، فضلا عن أنها لا ترى امتيازاتها أصلا كامتيازات، بسبب عمق النظرة الطبقية المتعالية السائدة فى أوساطها تجاه العمل اليدوى والطبقات الدنيا عموما، وارتياحها التاريخى للصيغ التى تتعامل مع هذه الطبقات على أنها فى حاجة إلى نوع من المساعدة والإحسان، وأنه يجب فوق ذلك تهنئتها ومدحها على هذا القليل الذى تقدمه بتعالٍ غير مبرر. وبصفة خاصة فإن قطاعات الطبقة الوسطى الأقل كفاءة، والتى تقدم للمجتمع شيئا يُذكر فى الحقيقة، هى الأكثر شراسة فى التمسك بامتيازاتها الإيديولوجية والنفسية والمادية.
يستطيع اليسار الديمقراطى أن يلعب دور الجسر بين سكان الأقاليم والمهمشين والقطاعات الأكثر تقدما من الطبقة الوسطى والطبقة العاملة. فالخطاب الديمقراطى الجذرى يكشف بوضوح عن العلاقة الوثيقة بين مستقبل الديمقراطية وبين خلق قنوات ديمقراطية تعبر عن القطاعات الأفقر. وبين التقدم وبين رفع مستوى المهارة للقطاعات العريضة. وعلى فضح الخطاب الرجعى الذى يتندر على تخلف الفقراء ليستخدم هذا نفسه فى إدامة تخلفهم، ثم تبرير الديكتاتورية فى التحليل الأخير.
وفيما يتعلق بقضية الأمن، يجب اتخاذ إجراءات أكثر جذرية فى عملية إعادة هيكلة جهاز الشرطة، مثل سرعة تخريج دفعات أكاديمية الشرطة وتعيينها وتطعيم الجهاز بخريجى حقوق مدنيين مشاركين، بالإضافة إلى فتح التحقيق فى التعليم والتدريب الشرطيين ليقوم على مراعاة مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
من جهة أخرى، يتطلب أى عمل جاد لجعل جهاز الأمن الوطنى شيئا مختلفا عن أمن الدولة ومنعه من التدخل فى الحياة السياسية ومؤسسات الدولة الأخرى تشكيل لجنة نزيهة من عناصر شرطية وغير شرطية موالية للثورة لفحص ملفات الجهاز السابق، والتى لم تُعدم غالبا، وتنظيم حق الأفراد فى الحصول على ملفاتهم الشخصية، وأن تشرف هذه اللجنة على إعدام الملفات المتعلقة بأجهزة الدولة المدنية والمؤسسات الخاصة المختلفة بجميع نسخها، بالإضافة إلى إعادة هيكلة الجهاز ككل بما يضمن عدم احتوائه على شُعَب أو إدارات تتولى متابعة النشاط السياسى والنقابى ومختلف المؤسسات العامة والخاصة.
ولعله من المفيد هنا تكوين تحالف من جانب منظمات حقوق الإنسان الأكثر نشاطا لمتابعة هذا الملف، لما لها من خبرة فى هذا الشأن، فضلا عن دورها البارز فى متابعة حالات التعذيب ومختلف انتهاكات حقوق الإنسان. ويتطلب ذلك تغيير نمط التعبئة الذى قامت عليه هذه المنظمات فى العهد السابق، لتصبح أكثر انتشارا وجماهيرية ومتعددة الفروع، تعتمد على جهود المتطوعين والمعرضين للانتهاك، أى أن تعدل نشاطها لتعبئة الناس أنفسهم للدفاع عن كرامتهم وحقوقهم، جنبا إلى جنب مع النشاط المألوف الخاص بالنشر الداخلى والخارجى عن الانتهاكات وتقديم المساعدات.
ثالثا، خلاصة عامة
من المفهوم أن هذا التصور بتشعبه وتعقده لا يمكن تحقيقه فى وقت قصير. غير أن كل خطوة فى اتجاه تحقيق مفرداته ستشتبك إن عاجلا أم آجلا مع تصورات أنصار الدولة الأمنية فى سعيهم لإعادة بناء هذه الدولة أو أجزاء منها أو خفض مستوى التسيس والديناميكية الديمقراطية. فالمهمات الثلاث: البناء السياسى وديمقراطية المؤسسات والأمن، مطروحة موضوعيا ولا فرار منها. وبقدر ما تنجح القوى الديمقراطية فى بلورة تصوراتها حولها، والتنظيم والضغط من أجل حلول ديمقراطية لها، بقدر ما ستكون مشاركتها فى صنع المستقبل، وقدرتها على جذب قوى عديدة لصفها، وتحجيم قوى الثورة المضادة ودفعها إلى المجال السياسى.
جانب لا بأس به من “حزب الكنبة”، وكذلك فى داخل تيار الأخوان المسلمين، قابل للاستجابة لبرنامج كهذا إذا كانت تسانده قوى كافية، بل والمشاركة فى تحقيقه. فكثير منهم ليسوا أعداء للثورة أو ليسوا أعداء لها بالمطلق. كما أن تقديم التنازلات لهذه القوى لعقد تحالف معها، سواء فى المواقع المختلفة أو فى تحالفات سياسية، لتأسيس دولة ديمقراطية، سيكون أكثر عقلانية وموضوعية حين يكون مبنيا على توازنات واقعية ومهام مشتركة يجرى تنفيذها أو النضال من أجلها بالفعل. كما أنها ستكون تنازلات معقولة بمجرد تحقيق حد أدنى من الدعاية والتنظيم لتصور يشبه هذا أو يطوره. فأقلية نشطة ولها تصور واضح ستكون حاسمة فى هذه الظروف فى ضوء العجز المتأصل لدى القوى الطائفية والقوى السلبية عن تأسيس دولة.
بالمقابل، أخطر ما قد يحبط مشاركة واسعة للقوى الديمقراطية، وبالتالى بناء الدولة الديمقراطية، هو احتفاظ هذه القوى بالعقلية القديمة فى خوض الصراع بطرح مبادئ عامة من قبيل “الدفاع عن الطبقة العاملة”، الذى يشع فى حد ذاته بالسلطوية والوصاية، أو الكلام عن الحرية والديمقراطية بشكل فوقى متعالى، كمبادئ مجردة. الواقعية السياسية ورؤية الممكنات، لا الشعارات والمبادئ، هى الطريق الوحيد المتاح للديمقراطية بوصفها عملية طويلة المدى تقوم على تعبئة سياسية على مستويات مختلفة وبدرجات عديدة وبتحالفات ليست بالضرورة مثالية.
أما ما يجب بطبيعة الحال التقيد به كاتجاه عام فهو شعارات الثورة: “إرفع راسك فوق.. إنت مصرى”، “خبز، كرامة، حرية، عدالة اجتماعية”، ما يمكن أن نسميه روح الثورة. الثورات لحظات استثنائية، يكتشف فيها الملايين فجأة، ومن خلال فعلهم نفسه، أن هناك طريقة أخرى للحياة، وأن لها معانى جديدة. هذا الأثر يتغلغل بطرق يصعب حصرها فى تصرفات الناس ووعيهم، ولا يمحوه شىء تقريبا، سوى ربما رِدَّة كاملة مستبعدة عمليا.
ليست الثورات انتقالات سلسة وقاطعة ونظيفة وفورية من نظام إلى آخر، ومن حياة إلى أخرى، بل هى علامات مشحونة بالانفعالات على أن عالمنا قد تغير بالفعل قبل زمن طويل، وأن الإفصاح عن هذا التغير أصبح لا يطيق مزيدا من الانتظار. ولكن هذا الإفصاح البطولى لا يستطيع سوى أن يفتح الباب فحسب لمخاض طويل، يجد فيه كل المناضلين، والمتعاطفون معهم، معانى جديدة تعوض عن كل مشقة وتضحية. قد تكون الانتفاضة لحظة رومانسية نفتقدها الآن لنواجه واقعا به الكثير من النقاط المعتمة والمحاذير، والأصوات المنكرة، كما قال كثير من رفاق الثورة. لكن هذه اللحظات الرومانسية هى التى تقيم العوالم الجديدة وتُفنى القديمة، وهى التى تدوم، قبل وبعد كل شىء آخر.
عاشت الثورة