width text-align:right; text-align:right;

يناير٢٠١١

السويس : عندما حلم أبناء الغريب بستالينجراد الثانية الأخرى

اشرف الشريف

هل يمكن الانتقال من ثورتك بواقعها ومجازاتها لتقيم في ثورة الآخرين الشركاء والغرباء؟ – شركاء الوطن والغرباء عن واقعك الجهم الضيق المحدود في الوقت ذاته؟

عندما بدأ الكلام عن المواجهات المشتعلة في السويس يوم 25 يناير وبدأ بعض المحللين الحديث عن “سيدي بوزيد” المصرية، قررت أن أبدأ رحلة تجوال لاستكشاف آفاق الحدث الثوري خارج القاهرة صاحبة الحظ الوافر من التغطية الإعلامية. وكان دافعي الأول هو التوثيق الذاتي لحقيقة الثورة في الوطن المصري بعيدا عن أضواء وضوضاء العاصمة التي طالما نُعتت بنخبويتها وعدم تماهي حركيتها مع عموم الجسد المصري. كان يحركني اهتمام سياسي عام بمآلات الثورة المصرية والتي سيتحدد سقف تطلعاتها بمدي انتشارها خارج العاصمة (علي خلاف الثورة التونسية التي تأكد نجاحها عندما وصل زحفها إلى العاصمة)، وشغف إنساني خاص بمعادلات الانتقال البينية بين الثورات وتأثيرها على اغترابنا عن الوطن كفكرة وكواقع معاش، وتساؤل عما إذا كان التشكل الجمعي للغضب على امتداد التنويعات المكانية داخل الوطن يجعله أكثر أصالة في التعبير عن الشرط الإنساني للثورة المصرية؟

لم أكن غافلا عن استحالة دخول السويس عبر طريق القاهرة الصحراوي فقررت الدخول من شمال المدينة واستلزم هذا استيلاد جينات المخبر البوليسي داخلي على طول الطريق، من القاهرة إلى الإسكندرية إلى طنطا، ثم إلى الإسماعيلية فالسويس أخيرا.

هي أول زيارة لي للمدينة الباسلة المرتبطة في الوجدان المصري ببطولة أبنائها في الدفاع عن المدينة ضد هجمة الجيش الإسرائيلي في حرب 1973.. دخلتها مسلحا بوجدانيات هذه الأيقونة المجيدة وتراثيات أغاني محمد حمام وأولاد الأرض وقصص الشيخ حافظ سلامة وفيلم حكايات الغريب.

بدأت تلمس طريقي داخل المدينة محاولا تحسس التخوم الفاصلة بين واقع الأسطورة وأسطورة الواقع.. وكان ما خلب لبي هو أنني وربما للمرة الأولي في حياتي أجد نفسي أمام مدينة مصرية غاضبة، لا تقوم ثورتها على أساس ائتلاف مجموعات مختلفة من شباب الألتراس والفيسبوك والإخوان والأحياء الشعبية، كما هو الحادث في القاهرة، ولكن على أساس هبة جماهير المدينة ككتلة واحدة، تُقبل وتُدبر معا في شكل تضامني مميز للمدن الصغيرة ومدن القناة تحديدا صاحبة التراث التاريخي المميز في المعارضة السياسية، سواء عبر معدلات التصويت الانتخابية المرتفعة للمعارضة، أو عن طريق نشاطية الحركات الراديكالية اليسارية والإسلامية. التضامن هنا لا يحدده منطق القرابة والعشائرية بقدر ما هي فكرة المساحة المشتركة التي ينظمها منطق التضافر الاجتماعي لسكان الأحياء المشتركة وروابط الحياة الجمعية، ولا يستلهم روح الثأر بل روح الكرامة وعزة النفس والأنفة بمعناها الإنساني الشجي الذي يهدهد المرارات ويطببها ولا يستثير النعرات أو الحزازات.

كانت ثورة السوايسة نموذجا فاتنا للـ town solidarity، حيث تأخذ المواجهات مع السلطة طابعا رومانسيا محببا للنفس، وتظهر فيها مفردات مثل تحرير الأرض والمقاومة الشعبية التي كانت شعارا معلنا للمحتجين منذ يوم 26 يناير. هذا الأفق الأكثر راديكالية من شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” الذي نظم حركة الثورة في القاهرة كان بدوره يستولد الإمكانيات الثورية للثورة المصرية ويبلورها بشكل يفوق توقعات مركزها القاهري. العدل والخبز كانا مطلبين أساسيين لأهالي السويس في مظاهراتهم، وهو ما بدا لي متسقا مع وجه الفقر الذي صدمني في المدينة. لكن السياق ومنذ اللحظة الأولي يوم 25 كان سياق الاستقطاب التام بين الأهالي والسلطة، التي بات يُنظر إليها كسلطة احتلال غريبة ومرذولة وهمجية.. هذه لحظة ستالنجرادية خاصة عرفتها السويس منذ اللحظة الأولي في نهار يوم 25 يناير.

 المدينة تم عزلها عن العالم بقطع الاتصالات التليفونية والإنترنت منذ ليلة 26 يناير. وساهم هذا بدوره في خلق حالة الحصار التي عززت من الظرف الستالينجرادي الذي حول السويس إلى مدينة مقاتلة ضد قوي غاشمة العدد والعتاد، واكتسبت قدرا عاليا من التجريد والترميز في المخيال السويسي برغم فظاظتها المادية.

تجولت في الشوارع التي بدت لي قريبة من الصور التي تناقلتها الفضائيات للفالوجة العراقية منذ سنوات قليلة: المتاريس والأسلاك الشائكة والمباني المحطمة للمصالح الحكومية في حي السويس والمئات من السيارات المحترقة، سواء سيارات أمن مركزي أو شرطة أو سيارات حكومية، وسُحُب الغاز المسيل للدموع تظلل الكتلة الضخمة من أرض المدينة وهوائها على امتداد أحياء الأربعين والسويس.

القصص عديدة عن الوحشية المفرطة للأمن المركزي ضد المتظاهرين يوم 25 وقيام بعض رجال الأعمال من الحزب الوطني بإطلاق الرصاص الحي على الناس منذ اللحظة الأولى. وكان الرد الحاسم من المتظاهرين مزلزلا؛ فأقسام الشرطة ومقار الحزب الوطني والمحليات تم حرقها والهجوم عليها بشكل متواصل منذ يوم 25 يناير، وهو ما لم يحدث في المدن المصرية الأخرى إلا يوم 28. كان الغضب السويسي هادرا غير مهادن ولا متردد منذ الوهلة الأولي، بل شب عن طوق لحظته الجنينية بسرعة وأبي أن يسلم نفسه أبدا إلى موت سريري قد يعترض مسار المدن الغاضبة كما أنبأتنا كتب السير والعبر.

 وجود القوي السياسية المعارضة شبه معدوم باستثناء وجود محدود لدعايات الجمعية الوطنية للتغيير والإخوان المسلمين. على امتداد المدينة حالة من الترقب الممتزجة بالنشوة والغضب النبيل تلمع في عيون الناس أثناء فترات الانتظار بين معركة انتهت ومعركة ستبدأ. وسط الأخبار عن قدوم قوات إضافية من الإسماعيلية وبورسعيد.. تبادلت الحديث مع رجال وشباب على المقاهي المتناثرة حول ميدان الأربعين، وكان هناك حالة فخر عامة بالانتصار الذي يحققونه… والكلام عن الضحايا من القتلى والمصابين يُتداول، لا على شكل بكائيات وعزاءات يغلفها الحزن، ولا على شكل كراهية معبأة للثأر والانتقام بقدر ما كانت سرديات عامة وخاصة القصد منها إظهار الصلابة والقوة والتصميم على امتلاك لحظتهم الملحمية وعدم التخلي عنها مهما كانت الأثمان المدفوعة.. وجود لافت للنساء بإسهاماتهن اللوجستية في الشوارع ينزع صفة الحزن والهلع عن انتفاضة المدينة الفاتنة ويكسبها ثوب الصمود.. هذه روح مألوفة لقارئ التاريخ إذا ما استحضر الزمكانات المختلفة لتجارب الحصار والمقاومة أثناء الحروب الكبرى.

وبعيدا عن الأيقونية المحتفي بها لميدان التحرير في القاهرة، كانت السويس هي التي سجلت الانتصار العسكري الحاسم للثورة المصرية، سواء بتكتيكات الحشود الجماهيرية المليئة بالغضب والتصميم، أو بتكتيكات حرب العصابات القائمة على مناورات Hit and run في ميدان الإسعاف وشارع الجيش وميدان الأربعين. السويس أيضا حملت عبء استمرار الثورة المصرية لوحدها يومي 26 و27 أثناء الهدوء النسبي الذي ساد بقية المدن قبل جمعة الغضب.. السويس رفعت راية العصيان المدني الشامل من البداية إلى النهاية بشكل لا يمكن وصفه إلا بأنه ملحمي.

وقد تندر أحد الأهالي المتحمسين قائلا لي أن السويس جعلت المهمة أسهل علي باقي مدن مصر، لأن التعزيزات المستمرة من الأمن المركزي التي أرسلتها الداخلية إلى السويس قد أضعفت القوة الضاربة للجهاز القمعي للأمن يوم جمعة الغضب في باقي المحافظات.

بينما كانت الأخبار تترى في ليلة الخميس 27 يناير عن قرب نزول قوات الجيش الثالث لإنهاء هذه الحرب المستعرة، تبادلت أطراف الحديث مع مجموعة من الشباب المتحمس كانوا يقومون بالتنسيق بين شبكات الدعم في المنازل والمساجد وجبهات الاشتباك في الميادين والشوارع الرئيسية. وحدثني أحدهم عن الفرق بين الجنرال الإسرائيلي أبراهام أدان قائد الهجوم على السويس عام 1973 والجنرال المصري حبيب العادلي قائد الهجوم على السويس عام 2011. كانت المقارنة لصالح الأول كونه الأقل قسوة ووحشية، فهو لم يقم بدهس أجساد الشباب بالعربات المدرعة كما فعل نظيره المصري بعد معركة السويس بثمان وثلاثين عاما. بدا مدهشا بالنسبة لي أن أسمع هذه المقارنات من شباب في العشرينيات، وأعتقد إن توارث الخبرات النضالية وإعادة توظيفها بهذا الشكل يحتاج إلى تحليل مستقل.

كانت ليلة الخميس 27 يناير أطول ليلة في تاريخ السويس، ترقبا ليوم جمعة يتوقعه الجميع حاسما مع ما تبقي من قدرة عسكرية لوزارة الداخلية، وأقاويل عن خطبة جمعة قصيرة سيلقيها أيقونة المدينة ورمزها الشيخ حافظ سلامة القطب الديني المعروف صاحب الـ86 ربيعا، والذي أقام الشباب منذ 25 يناير سلاسل من الدروع البشرية حول مسكنه في مسجد الشهداء حماية له من توقعات باستهداف حياته وسلامته من جانب الداخلية. قررت قضاء الليلة ساهرا على قهوة صغيرة في ميدان الأربعين وحذرني صاحب القهوة من البقاء في السويس للجمعة، لأني لن أستطيع الخروج بعدها. ثم عاد ليتحدث عن قيام العمال بالإضراب في مصانع الزعفرانة وحي عتاقة وانضمامهم للمظاهرات المتوقعة يوم الجمعة.

حالة القوة البادية في عيني الرجل الخمسيني (الذي شهد ذكريات 1973) دفعتني لسؤاله: مش خايفين يا حاج؟ فقال لي: يا أستاذ هما اللي ليهم حق يخافوا مش إحنا. الجيش حينزل عشان يحميهم مش يحمينا. فسألته طب وإيه موقفكم لما ينزل الجيش؟ فقال: يا أستاذ الجيش ده قيادته عندنا هنا في السويس وعارفينهم كويس، إنما أي واحد من الداخلية أو الحكومة حيظهر تاني حندبحه.

تم الحسم يوم الجمعة من قبل الصلاة وانتهت قصة الداخلية في السويس ونزلت قوات الجيش إلى المدينة وسط تحيات الأهالي. وقد أجبرتني الشرطة العسكرية على الرحيل بداعي تنظيم الأمور في المدينة. وبينما أنا متجه إلى القاهرة في ظهر يوم 28 يناير على طريق السويس القاهرة الصحراوي (الذي تمت إعادة فتحه من قبل الجيش لخروج من هو غير سويسي من أمثالي) مفكرا في شكل المواجهات الذي ستستقبلني به القاهرة فيما تبقي من جمعة الغضب لم أملك إلا أن أسترجع لمحة النشوة في عيني الرجل السويسي صاحب القهوة الفخور بستالينجراده الأخرى.

___________

(*) ستالنجراد، أى مدينة ستالين، نسبة للزعيم الروسى ستالين، وسُميت سابقا فولجوجراد، ثم تسارتسين، ثم عاد لها اسمها الأصلى. وهى تقع عند التقاء نهرى الفولجا والدون. هى مدينة روسية استراتيجية أوقفت من خلال حرب مريرة استمرت لحوالى خمسة أشهر تقدم قوات ألمانيا النازية. وكان انتصارها فى فبراير 1943 نقطة تحول حاسمة فى مسار الحرب العالمية الثانية، ولكن بعد أن تم تدميرها بشكل شبه كامل.


اترك تعليق