لسوء حظ جهاز الشرطة فى مصر أن أزمته التاريخية التى ترتب عليها انهياره رافقت ثورة سياسية جعلت من مسالة وضع وطريقة عمله ومستقبله معيارا لنجاح أهدافها. لكنى فى الحقيقة لا أستطيع أن أبدأ هذا التحليل الأوَّلى من النتائج، بل من المقدمات التاريخية، لأن تاريخ تطور جهاز الشرطة فى مصر ينبئ بما آل إليه وضعه الآن. وفى هذا المقال لن أتعرض لجهاز أمن الدولة لأنه يحتاج إلى حديث أكثر تفصيلا .
أولا، لعل الحقيقة الأساسية التى حكمت تطور جهاز الشرطة هو أنه تأسس فى مصر على طراز غربى فى إطار عملية التحديث التى بدأت أواخر القرن التاسع عشر. وبقدر ما كان هذا التحديث من أعلى، كان منطق وجود الشرطة وطريقة عملها وانتشارها وأماكن تمركزها تتماشى جميعا مع طريقة التحديث تلك. فأقسام الشرطة بدأت فى العمل أولا فى المناطق الراقية، بينما لم يكن للشرطة نفوذ فى المناطق الشعبية، حيث كان الفتوة أو البلطجى فى علاقته بـ”أعيان” المكان أو كباره أيا كانوا، هو جهة تنفيذ القانون أو العرف أو الشرع أو كل ذلك بالقوة والإجبار. وفى الريف كان خفراء العمدة هم من يقومون بتلك المهمات محليا. وكانت الشرطة المتواجدة فى المديريات (المحافظات الريفية) لا تُستدعى إلا فى حالة حدوث أمر جلل، وكان حضورها يجلب معه الخوف والرعب، لأنهم ببساطه غرباء من بيئة ثقافية مختلفة ومن خلفيات أكثر ثراءً قياسا ببقية المصريين، بما يضمن لهم وفقا لمفاهيم المجتمع الطبقى وغُربة الدولة الحق الطبيعى فى ممارسة القسوة.
نشأ جهاز الشرطة الحديث إذن غريبا عن معظم البيئات المحلية المصرية، ريفية كانت أم حضرية، باستثناء مناطق القاهرة الجديدة التى تم تشييدها فى عصر الخديو إسماعيل وأحياء الأجانب والأثرياء فى مدينة الإسكندرية وأحياء فى الإسماعيلية وما أشبه. من الطبيعى إذن أن تكون أزمة جهاز الشرطة جزءا من أزمة التحديث فى مصر عموما.
يأتى معظم ضباط الشرطة تاريخيا فى مصر من خلفيات اجتماعية مدينية، ومن أبناء الطبقة الوسطى تحديدا، باستثناء “كوتة” محفوظة دائما لعائلات الصعيد الكبيرة على مر الأزمان. تلعب تلك الخلفية الاجتماعية لضباط الشرطة دورا مهما فى تحديد طبيعة علاقتهم بالمواطنين. ففى بلد لا تزال طبقته الوسطى محدودة، وكانت صغيرة جدا فى الماضى، يتحمل ضابط الشرطة عبئا ثقيلا فى عملية قمع وتدجين الفقراء فى إطار رؤية معينة للعلاقات الاجتماعية. هذه الرؤية تحمل بطبيعة الحال حسا بوليسيا بحكم المهنة وتجعل من قاعدة الاشتباه أساسا للتعامل مع هذه الأوساط الاجتماعية الأفقر، وتضع إطارا يحكم فهم الشرطة لدورها، يتمثل فى ضبط العلاقة بين “المجتمع”، أى الطبقات العليا والوسطى من ناحية، والطبقات الدُنيا التى اعتُبرت خطرا مهددا من ناحية أخرى. ودور الشرطة هو ضبط هذه العلاقة أمنيا، بمنطق يقوم على الفصل بين المجتمع وهوامشه. ولما كان الضباط هم من “المجتمع”، ترسخت ممارسة الشرطة القائمة على تصور أنهم “أسياد البلد”، خصوصا مع ازدياد عدد سكان المدن فى الستينيات، وتوحش الرقع المدينية بشكل عشوائى فى السبعينيات وما بعدها. كذلك أدت عملية التحديث التدريجية للريف إلى فقدان الفتوات أو الخفر وغيرهم من الوسطاء المحليين لدورهم المعتاد، ليقع عبء ضبط الأمن فى تلك المناطق على عاتق الشرطة بالأساس.
أصبحت الشرطة إذن مضطرة للتغلغل فى أماكن تختلف تركيبتها الاجتماعية جذريا عن المناطق التى كانت تحميها من قبل. فى هذا السياق، ظهر أمناء الشرطة مع بداية السبعينيات. فبرغم أنهم متعلمين فإن خلفياتهم الاجتماعية أبسط وأجورهم أقل، بما يؤهلهم لدخول عوالم أصبحت شديدة العشوائية والهامشية بحيث لم يعد الضابط ابن الطبقة الوسطى قادرا على دخولها، أو حتى لا يحب دخولها بحكم تأففه الاجتماعى من المناطق الفقيرة وطريقة حياتها وقيمها. ترتب على ذلك عمليا أن أنيط بأمناء الشرطة لعب دور الوسيط بين الضباط ومن تعتبرهم الطبقات العليا والوسطى “أنصاف مواطنين”. وأنا، باعتبارى منتميا للطبقة الوسطى، لا أتذكر أنى تعاملت مع ضابط شرطة عبر وسيط، وقلما تحدثت إلى أمين شرطة، إلا لأساله على موقع أو مكان، فى حين أن عموم المصريين الفقراء يجدون فى أمين الشرطة همزة الوصل القادرة على نقل رسائلهم، حتى الشفهية، للبكوات الضباط “أسياد البلد”.
فى مقابل إنشاء نظام أمناء الشرطة طرأ عامل آخر يتعلق بالضباط أدى إلى تفاقم أزمة بنية الشرطة. فقد أصبح الالتحاق بكلية الشرطة مع بداية التسعينيات حكرا على الفئات الاجتماعية الأكثر يسرا ونفوذا داخل الطبقة الوسطى، بفعل أن الالتحاق بالأكاديمية أصبح يعتمد على الفساد ودفع رشاوى بعشرات الآلاف من الجنيهات. وقد يُستثنى من ذلك فقط أبناء بعض كبار الضباط. ومع ترهل جهاز الدولة عموما وعدم منطقية هيكل الأجور داخله، ومع تأثير التضخم العام على الدخل الحقيقى للمواطنين، أصبح ضابط الشرطة القادم من تلك الشرائح الميسورة فى أزمة مركبة. فكادره الوظيفى، حتى لو كان عاليا قياسا ببقية الإدارات الحكومية، يظل منخفضا منسوبا لسقف تطلعاته الاستهلاكية المترتبة على وضعه الاجتماعى الأصلى، الأمر الذى جعل الفساد ضرورة معيشية له فى كثير من الحالات. وفى نفس الوقت كانت خلفيته الاجتماعية تلك تُزيده عزلة عن عالم العوام الذى أصبح فى غربة عنه، لا ثقافيا فقط، بل حتى على مستوى الشكل والمظهر. فتجد كثيرا من ضباط الشرطة من خريجى التسعينيات وما بعدها بيض البشرة المشربة بالحمرة. ويزيد من الطين بلة تردى مستوى التعليم عموما بما فيها مستوى التعليم الشرطى والقانونى.
باجتماع هذه التطورات فى هيكل الشرطة، أصبح الضباط عاجزين فى معظمهم عن فرض سيطرتهم على المشتبه فيهم من الطبقات الدنيا إلا بعنف مبالغ فيه إلى حد الهوس، مصحوب بكراهية اجتماعية عميقة لهم. وبالمقابل، كان لا بد أن تزيد أهمية دور أمناء الشرطة باعتبارهم الأقدر على التغلغل فى هذه الأوساط والتعامل معها وفرزها. وكانت المحصلة التى يمكن ملاحظتها بسهولة فى الأقسام أن بعض أمناء الشرطة أصبحوا يتعاملون مع صغار الضباط معاملة الأسطى فى الورشة للصبى المستجد، لما يمتلكه من خبرات وقدرات يفتقر إليها الضابط، فى وضع يتناقض مع المراتبية العسكرية للجهاز. أصبح عالم ضباط الشرطة إذن يجمع بين خليط من الفساد وقلة الحيلة وتدنى الكفاءة وروح متعالية اجتماعيا مؤسسة على مفهوم “أسياد البلد”، مصحوبة فى الحقيقة بإحساس بالقنوط والضغط واللا جدوى، ناتج عما سبق ذكره.
ما سبق من عوامل جعل عمل الشرطة شديد الفساد والالتواء على مستوى آخر. فقد أدى هذا الوضع إلى تنامى علاقة من نوع خطر بين الشرطة وعالم الجريمة. فمن جهة أصبحت طريقة عمل الشرطة قائمة فعليا على إقامة صلة مميزة ووطيدة بهذا العالم من أجل كشف الجريمة نفسها. أصبح المسجلون الخطرون وغيرهم يعملون مرشدين للشرطة، وعند الحاجة بلطجية لصالحها بالوكالة فى مهمات مختلفة. وأدى ترافُق ذلك مع قلة الحيلة وتدنى الكفاءة، وفساد مالى بالقطع، إلى جعل علاقة جهاز الشرطة بالجريمة مع الوقت علاقة تماهٍ. وكان استعمال المجرمين ومن فى حكمهم فى مواجهة المظاهرات بدءا من 2005 مجرد علامة على وضع حاصل بالفعل، اشتهرت فقط بفعل انكشافها أمام وسائل الإعلام.
كان من نتائج تطور تلك العلاقة أن المسجلين الخطرين أصبحوا “كاسرين عين الضباط”، لأن هؤلاء عاجزين فى الحقيقة عن ضبط علاقتهم بالمسجلين إلا عبر تعذيب همجى، وهو ما أراه فى الحقيقة مدخلا نطقيا لتفشى التعذيب كثقافة داخل أقسام البوليس. فالحقيقة لا يمكن اعتبار التعذيب هواية فى حد ذاتها ناتجة عن مسحة من الشر تطول كل من التحق بجهاز الشرطة، بل هى تعكس هذه العلاقة المؤسسية المشوهة بين أفراد الشرطة من ضباط وأمناء وبين ميلشياتهم هذه من المسجلين بوضعها الملتبس.
وهناك سؤال آخر مهم يتعلق بالتحديد بالشرطة عموما وقوات الأمن المركزى خصوصا. فجهاز الشرطة جهاز مدنى وفقا للدستور والقانون، لكن بنيته عسكرية من حيث الهيكل والتراث منذ الاحتلال البريطانى. فرتب أفراد الشرطة رتب عسكرية، والترتيب الهرمى لاتخاذ القرار الشرطى عسكرى الطراز، وكذا آلية إصدار الأوامر، وهو ما يفسر الانهيار التام لجهاز الشرطة يوم 28 يناير المجيد نتيجة ما تبين من أنه ارتباك من جانب القيادة فى تعاطيها مع مجريات الأحداث على الأرض. أضف إلى ذلك وجود قوات الأمن المركزى، وهى تشكيل عسكرى بالكامل، لا يختلف عن تشكيلات القوات المسلحة إلا فى طبيعة التسليح ومهام القتال. كما أنه يضم من بين مجندى القوات المسلحة أكثرهم فقرا وجهلا وتعاسة، فى تداخل شاذ وغير مفهوم بين القوات المسلحة وقوات تابعة لوزارة الداخلية، المفترض أنها قانونيا مدنية التشكيل. هذه البنية العسكرية المتناقضة مع الطبيعة الأصلية المدنية للجهاز هى من الأسئلة الأكثر إلحاحا من وجهة نظرى فى أى جدل جاد يدار حول الشرطة.
*
لدينا إذن بنية كاملة من العفن المؤسسى وعلاقات مؤسسية مأزومة كامنة خلف توحش الشرطة وبناء أخلاقيات مؤسسية قائمة على العنف الهمجى، ومركزية ساحقة لم تعد لها علاقة بطبيعة العصر، وإن كانت وثيقة الصلة برغبة الأوليجاركية الحاكمة فى السيطرة بشكل مركزى على البلاد. وهى بنية لا تنفصل برغم خصوصياتها عن التعفن الذى أصاب الكثير من مؤسسات الدولة فى ظل الركود السياسى الطويل واستفحال الدولة البوليسية نفسه وآثاره العميقة على مجمل البنية الاجتماعية.
هذا التعفن جرت تغطيته بمجمله بإنجاز وحيد حققه هذا الجهاز فى ظل تحييد المجتمع بأكمله، وهو نجاحه بثمن باهظ فى الحرب المسلحة المفتوحة بين الدولة والجماعات الإسلامية، والتى تم تحييد المجتمع ” الرافض بطبعه لفكرة التمرد المسلح على الدولة ” لصالح إطلاق يد الشرطة سياسيا وأمنيا. وقد ظهر هذا بشكل أكثر فجاجة فى الصعيد. فقد تخطت الشرطة كل حواجز القانون وانطلقت يدها، مدعومة بمباركة قطاعات واسعة من السكان، رأت فى النفوذ المسلح للجماعات الإسلامية خطرا يستلزم تحية قانون الطوارئ والإيمان بضرورته. وكان من أثر ذلك ليس فقط التغطية على فشل جهاز الشرطة فى مهماته الأخرى الأساسية وتعفنه المؤسسى، بل أيضا تكريس فكرة مؤداها أن دولة القانون خيار وليس قاعدة، بل وخيار غير مفضل، ليس فقط فى ضوء تهديد الجماعات الإسلامية المسلحة، بل أيضا فى ضوء تشوه بنية الشرطة نفسها، التى أصبحت تقدم أسلوبها المتقدم ذكره باعتباره الطريقة الوحيدة لحماية “المجتمع” من المجرمين من ناحية، ومن كافة الفئات المهمشة وضبط مناطقها العشوائية أمنيا من ناحية أخرى.
*
وعليه، وفى ضوء تبعات ثورة 2011، فإننى أجد فى عودة جهاز الشرطة الأساسى، أى “الأمن العام”، أمرا شديد الصعوبة بدون تغيير معايير التجنيد لأكاديمية الشرطة بشكل يسمح بدخول طلاب من فئات اجتماعية فقيرة، بل بالذهاب أبعد من ذلك نحو إلغاء الأكاديمية أساسا وتشكيل الجهاز على أساس أنه جهاز خدمة عامة من تخصصات مختلفة، من أهمها خريجى كليات الحقوق، مع تدريب قصير مدته من ستة أشهر إلى سنة، وذلك بهدف منع تشكيل ثقافة متميزة وحياة لها معايير خاصة مغلقة على نفسها لضابط الشرطة من بداية حياته، وهو ما أراه أحد أهم جذور الكارثة الحالية. فالجيش هو الجهاز الوحيد الذى يمكن قبول تنشئة مستوياته القيادية من الضباط على فكرة الحياة المغلقة ذات الطراز العسكرى. بينما لا يمكن فهم تطبيق نفس الطريقة على الشرطة، لأنها جهاز مدنى مهماته اليومية قائمة على الاحتكاك بالمدنيين.
هذا التحويل الجوهرى هو الذى يسمح بأن تؤتى الاقتراحات الأخرى لإعادة الشرطة بثمارها، وبما يتفق مع مشروع إقامة دولة ديمقراطية. من هذه الاقتراحات مثلا تحسين الكادر الوظيفى للضباط والتشديد على إعادة تأهيلهم وفقا لمبادئ احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان. هذه الخطوات على أهميتها لن تحقق المراد منها بغير تغيير حاسم لبنية الشرطة الرباعية الحالية: “ضباط – أمناء شرطة – مخبرين – مسجلين”، بما فى ذلك القيام بإحلال شبه كامل لشبكة أمناء الشرطة باعتبارهم الوسطاء بين الضباط والمجرمين الشركاء، الذين هم فى الواقع الضحية الأكيدة لنتائج عملية إعادة الهيكلة. وليس القول مؤخرا بتغليط عقوبة البلطجة إلى الإعدام إلا مقدمة أولية لهذه العملية.
وفى كل الأحوال، هذه العملية بمجملها تفترض أخذ واقعة سقوط الدولة الأمنية بجدية كاملة. وبصفة خاصة أن يأخذها “المجتمع”، أى الطبقات الوسطى والعليا، بهذه الجدية. دعنا من الطبقات العليا الآن التى كانت السيطرة عليها موكلة لجهاز أمن الدولة بالفضائح وغيرها. بالنسبة للقطاع الأوسع، الطبقة الوسطى، كانت قضية خالد سعيد علامة من علامات كثيرة على أن توحش جهاز الشرطة بسبب فساد بنيته المذكورة بالذات، يطال فى النهاية الطبقة الوسطى أيضا، لأنها لن تعدم أبدا أفرادا لديهم حس مثالى بالعدالة ساخطين على الفساد، حتى إذا لم يكن يطالهم بشكل مباشر، فيتعرضون للقمع لمنعهم من فضح ما هو قائم بالفعل. هذا فضلا عن تعرضهم لسوء المعاملة بشكل معتاد.
ما لم تأخذ قطاعات من الطبقة الوسطى، بقيادة منظمات سياسية واجتماعية ديمقراطية، بجدية مهمة إدماج قطاعات متزايدة من الطبقات الدنيا، حضاريا واقتصاديا واجتماعيا، فى ما يسمى المجتمع، بإجراءات وجهود اجتماعية غير بوليسية، ستتعالى أصواتها بشكل متزايد طلبا للجهاز المتوحش القديم، ولو تحت أكثر الشعارات بريقا عن الأمن والأمان والحضارة وما إلى ذلك، أى ستنادى بالحل الأمنى للمشكلة الطبقية، بما يعنى عمليا المطالبة بالدولة البوليسية مرة أخرى، لتتحول إلى جيب رجعى يكتفى بمصمصة شفاهه أسفا على أن مصر ليست مثل أوربا.
قضية الشرطة إذن قضية سياسية وديمقراطية تماما، تلعب فيها الرؤية الاجتماعية والسياسية والمبادرات العقلانية الشاملة والنشطة الدور الأساسى الذى يفتح الطريق أمام تنفيذ الاقتراحات التفصيلية المتعلقة بجهاز الشرطة فى حد ذاته. بل نستطيع أن نقول أن قضية إعادة هيكلة الشرطة وتعريف دورها هى القضية السياسية الأكثر أهمية فى الصراع القائم بشأن مستقبل البلاد وتحقيق نتائج الثورة: حرية، كرامة، عدالة اجتماعية.