عمرو عبد الرحمن
اشك أن حزمة التعديلات الدستورية التى طرحتها لجنة تعديل الدستور المكلفة من قبل المجلس العسكرى وكذلك الجدول الزمنى المطروح والقاضى بإجراء انتخابات برلمانية فى يونيو المقبل تليها انتخابات رئاسية فى أغسطس هى ترتيبات أبعد ما تكون عن المثالية وتهدد بإفراز برلمان لا يعكس مكونات المجال السياسى المصرى الناشئ. إلا أن الانتخابات المبكرة ليست بالخيار الكارثى فى ذات الوقت ولا تعنى إجهاضاً لمسار الثورة المصرية كما يطرح أنصار مد الفترة الانتقالية وتشكيل مجلس رئاسى للإشراف على عملية التحول للديمقراطية. بل أظن أن هذا الخيار قد يشتمل على بعض الجوانب الإيجابية، إذ يحمل إمكانية حسم مأزق الشرعية الذى تمر به الثورة المصرية- أى العجز عن صياغة مرجعية محل توافق عام تفضى إلى ترتيبات دستورية ومؤسسية تجسد أهداف الانتفاضة. أثبتت أحداث الشهر الماضى أن المرحلة الحالية أبعد ما تكون عن عملية انتقال واضح وخطى الطابع إلى الديمقراطية ترعاها المؤسسة العسكرية بقدر ما أننا بصدد صراع مفتوح بين قوى الثورة العاجزة حتى الآن عن فرض شرعيتها بالكامل وقوى الثورة المضادة العاجزة عن دفع عقارب ساعة التغيير إلى الوراء والمؤسسة العسكرية التى تحجم عن وضع خطة واضحة المعالم لإدارة عملية التحول تتمثل فى كتابة دستور جديد وإطلاق الحريات العامة وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية. فى ضوء هذا الموقف قد تكون معركة انتخابية مبكرة خياراً بعيداً عن المثالية ولكنه قد يشكل مخرجاً من هذه الأزمة باتجاه مأسسة شرعية 25 يناير. لتوضيح هذه الفكرة من المفيد العودة لقراءة مسار الأحداث كما تكشّف حتى الآن لنفهم مواقف هذه الأطراف الثلاثة.
الثورة والثورة المضادة.. أبعد من سيناريوهات التآمر
أسباب عدم قدرة الحركة الجماهيرية التى أطاحت بمبارك على حسم سؤال الشرعية تكمن جزئياً فى تركيبها ومسار تطورها. نحن بإزاء حركة اتسعت رأسياً بوتيرة أسرع من توسعها أفقياً. تطورت هذه الحركة الجماهيرية منذ بداية الألفية لتشكل كتلة عمودية تخللت العديد من الطبقات. ضمت هذه الحركة فى البداية قطاعا واسعا من الإنتليجنسيا التى هُمشت مع انكماش الكتلة الحاكمة على نفسها واستغنائها الكامل عن أية خدمات إيديولوجية قدمها يوماً مثقفون وطنيون على الطراز الليبرالى أو الناصرى أو الإسلامى المعتدل، ثم امتدت لتشمل قسما كبيرا من الشباب ذوى الميول التقدمية أو المنفتحة على العالم بتسامح وثقة فى النفس داخل صفوف الشرائح المختلفة من الطبقة الوسطى المصرية، هذا بخلاف قطاع واسع من الطبقة العاملة الحضرية، خصوصاً فى القطاع العام الصناعى أو مرافق الدولة الخدمية، التى تدهورت أوضاعها المعيشية بشكل متسارع مع انتهاج أجندة ليبرالية جديدة. ثم لحق بهذه الكتلة فى مرحلة متأخرة العديد من رموز البرجوازية المصرية الكبيرة العاجزة عن التعايش مع واقع الفساد والنهب المنهجيين. كذلك تطورت هذه الكتلة بشكل عابر للتيارات السياسية من أقصى اليمين لأقصى اليسار، مروراً بالإسلاميين، لتثير قدراً لا يستهان به من الاستقطاب دون أن تبلور خطاباً متماسكاً جامعاً لهذه التيارات.
كان العنوان العريض الجامع لفعاليات هذه الحركة الاحتجاجية الفضفاضة هو التخلص من سطوة الأوليجاركية المرتبطة بمبارك وحزبه والتى اتخذت من تفكيك هياكل الدولة واقتصادها منهجاً، حصنته بالقمع المنظم والطبقية السافرة والتخريب العمدى لأية روح مدنية، مما شكل تهديداً حقيقياً لمستقبل الشرائح والفئات المشكلة لهذه الكتلة. من ناحية أخرى، لا تعبر الحركة الاحتجاجية ، برغم اتساعها الظاهر، عن المزاج العام السائد فى صفوف هذه الشرائح والفئات أو التيارات السياسية التى تشكلت عبرها، على الأقل حتى كتابة هذه السطور. فهذه الشرائح نفسها تحتوى على ميول مناقضة لروح الانتفاضة.
أما على صعيد المسار، فقد تطورت هذه الحركة الاحتجاجية بشكل متسارع ومباغت انتهى إلى الانتفاضة الجماهيرية التى انطلقت من المركز القاهرى أو المراكز الحضرية الكبرى ولم تبدأ من الأطراف أو الهوامش المدينية. على عكس الخبرتين التونسية والليبية، حيث استطاعت الحركة الجماهيرية أن تقلم أظافر النظام الحاكم وتؤسس لسلطتها الجديدة قبل أن تزحف على العاصمة. تجاوزت الحركة الجماهيرية فى مصر هياكل السلطة المحلية لتضرب رأسها فى القاهرة تاركة إياها فاقدة التوازن وفى حالة شلل كامل دون أن تؤسس لمرتكزات محلية لسلطتها المستقبلية. على سبيل المثال، دمرت هذه الانتفاضة، فيما يشبه المعجزة، الذراع الأمنى للنظام الحاكم فى أربعة أيام وشلت تنظيمه السياسى بشكل كامل، لكنها تركت مسئولى الحكم المحلى وقيادات البيروقراطية الحكومية بل ومسئولى الحزب الحاكم أنفسهم فى مواقعهم.
بعبارة أخرى، برغم قدرة الحركة على الإطاحة الظافرة بمبارك، فإنها لازالت مكشوفة الظهر إن جاز التعبير: أى أن قدرتها على التعبئة فى المركز لا توازيها قدرة مماثلة على التعبئة فى الأطراف من تجمعات سكانية حضرية أو مواقع عمل. كما أن التطور السريع لهذه الحركة لم يسمح بالتجانس بين مكوناتها المختلفة، مما عجّل بظهور تمايزات واضحة فى المواقف بمجرد رحيل مبارك. على سبيل المثال، ظهر التمايز سريعاً بين القيادات العمالية التى اندفعت لانتزاع مكاسب نقابية واجتماعية فى العديد من المواقع مستفيدة من الزخم الثورى السائد وبين شرائح من الطبقة الوسطى أو البرجوازية التى سرعان ما هالها المدى الذى يمكن أن تصل إليه الانتفاضة وإمكانية طرح سياسات التحرير الاقتصادى بالمجمل على المحك. كذلك أصبح الانقسام بادياً داخل النشطاء الشباب بين اتجاهات تقدمية من حيث النظرة للحريات الشخصية أو الحريات العامة واتجاهات محافظة تمحورت هواجسها حول ضرورة استعادة الأمن بأى ثمن، حتى لو أسفر ذلك عن فرملة إيقاع الانتفاضة وإطلاق يد الجيش “لتأديب” الجميع خلال الفترة الانتقالية، بما فى ذلك التواطؤ على تعذيب العديد من النشطاء وإحالتهم لمحاكمات عسكرية!
على الجانب الآخر، اتضح خلال الأسابيع الفائتة أن الهزة الارتدادية التى أعقبت تنحى مبارك فى شكل موجة إضرابية واسعة وغير مسبوقة وتنامى الأشكال التنظيمية والحزبية التى تستلهم شعارات هذه الانتفاضة تواجه معركة شرسة على الصعيدين السياسى والإيديولوجى تعجز عن حسمها، وهى المعركة التى توصف إعلامياً “بالمواجهة مع “قوى الثورة المضادة”. القول بأن حكم مبارك انتهى إلى سطوة أوليجاركية على جهاز الدولة لا يعنى أنه قد افتقر إلى أى قدر من الهيمنة الإيديولوجية. سيطرة هذا الافتراض المتفائل على أذهان الكثيرين دفعهم إلى تصور أن السهولة النسبية التى تمت بها إزاحة مبارك من السلطة تعنى انهيار الوعى الذى خلفه هذا النظام، إذ أن الكتلة الحاكمة، وفقاً لهذا التصور، لا ترتبط بالمجتمع إلا من خلال شبكة مصالح زبونية الطابع وحسب. لكن الحقيقة أن الطابع الأوليجاركى للحكم والتراكم قد ترافق، كما سبق القول، مع عملية تفكيك مستمرة لبنى المجتمع نفسها تتطلب دراسة مستقلة للوقوف على كافة أبعادها. يكفى فى هذا المقام الإشارة إلى أن نزع السياسة من المجال العام لا يعنى فقط تجريم التجمع أو التظاهر أو مصادرة الحق فى التنظيم، ولكنه يعنى من ضمن ما يعنى الحط من شأن هذه القيم جميعاً، بل والحط من فكرة “الشعب مصدر السلطات” فى حد ذاتها والاستهانة بها وبكل مفاعيلها من ثقافة مدنية وحكم قانون واحترام لجهاز الدولة. بل تعنى كذلك التعالى الأبوى على كل فعل احتجاجى بوصفه “قلة قيمة” وتفضيل التعلق الطفيلى بأجهزة الدولة أو مواقع النفوذ وما يستتبع ذلك من قيم التذلل والتزلف وانعدام الثقة فى الغير والعجز عن العمل الجماعى واستهجانه الدائم، لينتهى الأمر بغالبية الشعب المصرى إلى جمهرة متنافرة الأهواء غير محددة المعالم لا يجمعها إلا تعلق أبوى بالدولة وخوف مرضى من أى تغيير فى أى اتجاه.
فى هذا السياق، لا تناضل الكتلة التاريخية الصاعدة التى قادت الانتفاضة للوصول إلى السلطة أو إلى تنظيف جيوب النظام القديم، بل تمر بالأحرى بالمنعطف الأكثر صعوبة فى نضالها وهو تحدى التأسيس الإيديولوجى لسطوة الأوليجاركية الحاكمة ومحاولة إعادة اختراع الشعب المصرى مرة أخرى كوحدة سياسية وثقافية متميزة ومتنوعة. النصر الخاطف على مبارك وذراعه الأمنى الباطش لا يعود إلى صلابة إرادة هذه الكتلة فحسب ولا إلى هشاشة، بل وبلاهة، الأجهزة الأمنية لنظام مبارك والتى تعرف كيف تخرب وتفسد ولا تعرف كيف تتنبأ وترصد وتواجه كأى جهاز أمنى كفؤ فى العالم، ولكنها تعود فى المقام الثانى إلى غياب أية قدرة لجمهرة “الاستقرار” تلك على الحركة ككتلة موحدة إلا عبر جهاز الدولة الكفيل بجمع بعض عناصرها وإطلاقها على المتظاهرين، أى أنها عاجزة عن الدفاع عن النظام من تلقاء نفسها وبمبادرات مستقلة.
المزاج العام المحافظ لهذه الجمهرة مزاج راسخ ويشكل حجر عثرة فى وجه تبلور هذه الكتلة التاريخية ومحاولة إنجاز مهمتها حتى ولو لم تهب دفاعاً عن مبارك ونظامه. هذه الجمهرة هى من تصرخ اليوم رغبةً فى “الأمان” ومطالبةً المجلس العسكرى بإعلان الأحكام العرفية، وهى من تنغمس فى صدام طائفى فجره حديث عن أحجبة وأعمال سحر وشعوذة بعد أيام من انتصار انتفاضة شعبية أدهشت العالم فى تحضرها وتنظيمها. هى من تحن إلى “حالة طوارئ جدية” وسلطة باطشة تؤمن استمرار نمط التراكم والتوزيع وتوفر الاطمئنان الذى ساد فى حقبة مبارك. البحث عن مبرر لإعلان حالة الطوارئ هو المنطق الناظم لتصرفات هذه الجمهرة خلال الفترة الأخيرة. فى هذا السياق، لا ينبغى التركيز على استراتيجيات فلول أمن الدولة أو الحزب الوطنى. ما يستحق التركيز هو خطاب هذه الفلول والاستعداد الواضح للتفاعل معه، بل والرغبة فى إنهاء حالة التسييس التى ولدتها الانتفاضة فى أسرع وقت ممكن والعودة لحالة الطوارئ!
هو إذن صراع عميق الشبه بنضالات الاستقلال كما تحدث بحق العديد من المفكرين- نضال ضد المستعمر تقوده كتلة تاريخية حديثة التكوين فى محاولة لتشكيل “شعب” من جماع رعية تشعر بالدونية ولا ترى نفسها أهلاً لهذا الهدف. وبالتالى تصطدم هذه الكتلة، كما حدث مع أسلافها، بسؤال الشرعية: وفقاً لأى مرجعية تدعى هذه القوى لنفسها الجدارة بتأسيس هذا الكيان السياسى-الثقافى الجديد؟
تناقضات حاكمة لموقف الجيش
“الشرعية الثورية” هى الإجابة الغامضة التى تقدمها قوى الثورة للسؤال السابق. ولكن نعود لنكرر أن المشكلة تتمثل فى عجز قوى الثورة منفردة -دون اعتماد على المؤسسة العسكرية- عن تجسيد هذه الشرعية فى شكل ترتيبات دستورية ومؤسسية.
نعود إلى مسار أحداث الانتفاضة مرة أخرى. كان من الواضح أن النصر الخاطف الذى حققته الانتفاضة فى الأيام الأولى على أجهزة القمع المباشر لم يكن قادراً بحد ذاته على فرض مطلب إزاحة مبارك بقدر ما كان قادراً على فرض حالة من الشلل العام على جهاز الدولة. تدخل الجيش هنا كان بهدف الحفاظ على الدولة بوصفه عامودها الرئيسى والمؤسسة التى لعبت الدور الأهم بحكم ثقافتها وآليات عملها فى إعادة إنتاج مصفوفة العلاقات الاجتماعية الأبوية والتراتبية الطبقية التى انتظمت حولها التشكيلات الاجتماعية الحديثة فى مصر. إلا أن الجيش نفسه يمكن اعتباره جزءا من النظام بمعنى آخر- فقياداته العليا تنتمى للكتلة الحاكمة بطابعها الأوليجاركى سواء بحكم انغماس الجيش المباشر فى الاستثمارات الخدمية الكبرى، الأمر الذى يسفر عن تشكل قسم متميز من البيروقراطية العسكرية تتداخل مصالحه مع قطاعات ذات حظوة من البرجوازية المصرية، أو عن طريق تشكيل قاعدة تجنيد سياسى للقيادات العليا فى الدولة (عدد المحافظين القادمين من خلفيات عسكرية أو رؤساء هيئات صناعية وخدمية كبرى مؤشر على الميل إلى الثقة فى الجيش على حساب المسئولين المدنيين متضائلى الكفاءة)
فرضت الانتفاضة الجماهيرية وانهيار الجهاز الأمنى للنظام على الجيش ضرورة التدخل لحماية جهاز الدولة من الانهيار الكامل، ومن ثم نزع فتيل الأزمة بإجبار مبارك على الرحيل، أى الانحياز المؤقت إلى الجانب المؤسسى فى تكوينه على حساب جانبه الأوليجاركى المستجد. يحاول المجلس العسكرى عبر العديد من الإجراءات المتسارعة تأسيس مسافة بين جهاز الدولة وتقلبات المجال السياسى بعدما تلاشت تقريبا هذه المسافة وأصبح النظام عبئاً على الدولة بالمعنى الحرفى للكلمة. فى ذات السياق، يعى الجيش تماما حساسية وضعه بوصفه المؤسسة الوحيدة المتماسكة محط الإجماع والتى لا تتحمل أن تتورط هى نفسها فى انحيازات قد تهدد تماسكها فى المستقبل أو تفتح باب التسييس بداخلها، ومن ثم يسعى إلى تسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة فى أسرع وقت ممكن يخلصه من هذا الوضع المحرج. ناهيك عن غياب أى خيال أو طموح سياسيين قد يزينا للجيش هيمنة على “الطراز التركى” على سبيل المثال.
إلا أن ضلوع الجيش فى استراتيجيات الأوليجاركية أدى إلى محاولة كبح المد الثورى والحيلولة دون وصوله إلى الحد الذى يهدد التوجهات الاقتصادية الآنية ككل. يتمثل هذا السعى فى التضييق على الحركة الإضرابية بل واللجوء إلى التهديد الصريح باستخدام القوة تجاهها فى بعض الأحيان والإبقاء على هياكل بالية كالاتحاد العام للعمال والأجهزة التنفيذية المحلية التى اعترف مستشارو مبارك المقربون علناً بفسادها واستعصائها على الإصلاح، وكذلك التباطؤ فى تصفية شبكات الفساد العابرة لمؤسسات الدولة والقطاع الخاص خوفاً من هرب الاستثمارات الأجنبية أو تباطؤ النمو.
يسعى المجلس العسكرى إلى حل هذا التناقض بين ميله المؤسسى وحقيقة وضعه كجزء من النظام القديم بتأجيل حسم أى ملف معقد سواء تعلق بإجراءات الإصلاح السياسى أو إعادة النظر فى السياسات التنموية المتبعة إلى حين تحويلها إلى سلطة مدنية جديدة، والخروج من المشهد بأقصى سرعة حفاظاً على الدولة من التآكل. أجندة الجيش تتضمن بنداً واحداً هو الاستقرار معرفاً بعودة دولاب العمل داخل الدولة والقطاع الخاص ولا تتسع لاحتمال التأسيس لشرعية جديدة بكل ما يستتبعه ذلك الخيار من تداعيات.
مرحلة انتقالية أم حالة طوارئ؟
عبر هذه الثغرة بين عجز الحركة الجماهيرية عن تأسيس شرعية جديدة بقدراتها الخاصة وبغير حاجة للجيش وإحجام الجيش عن الشروع فى ذلك تعود الأوليجاركية إلى لملمة نفسها والتأسيس لسطوتها مرة أخرى عن طريق الالتفاف حول المجلس العسكرى. ما شهدناه فى الأسابيع الماضية هو محاولة دءوبة لإعادة تنظيم الصفوف تتجلى فى خطاب إعلامى محموم حول ضرورة عودة الاستقرار ونشر هستيريا تتعلق بتدهور الاقتصاد الوطنى فى الإعلام، بل والتحريض الصريح على المتظاهرين والمضربين. بعبارة أخرى، تجد هذه القوى فى حديث الاستقرار مبتغاها لتحويل فترة وجود الجيش فى السلطة من فترة انتقال للديمقراطية إلى فترة أحكام عرفية أو حالة طوارئ جديدة. أما على الأرض، فقد بدأت وجوه هذه الأوليجاركية فى ترتيب أوراقها وإعادة تأسيس نفوذها المحلى على قاعدة جديدة تتمثل فى لعب دور الوكيل الحصرى لأعمال المجلس العسكرى بوصفه السلطة الشرعية الحاكمة فى مصر. نعود لنشدد أن الحديث عن قوى الثورة المضادة لا يشير إلى تحالف اجتماعى واسع يعبر عن نفسه سياسياً، أو يسعى للتعبير عن نفسه سياسيا كما هو الحال فى جبهة قوى الثورة، بقدر ما نحن بصدد تحالف اجتماعى لا يعرف آليات تمثيل سياسى من الأساس، إذ أن علة وجوده وشروط تكوينه تتمثل فى تهميش السياسة نفسها. وبالتالى فالتمثيل الوحيد الممكن له يكون من خلال جهاز الدولة، أو لا يكون. وحيث أن جهاز الدولة خاضع حاليا لإدارة المجلس العسكرى، الذى يديره بمنطق “إنقاذ البلد من الانهيار”، لا يسع هذا التحالف إلا تمثُّل هذا الخطاب وإعادة اختراع نفسه مرة أخرى بوصفه ذراع المجلس العسكرى وقاعدته، بعد أن كان حتى الأمس القريب قاعدة لمشروع جمال مبارك. تداعيات أحداث قرية أطفيح الطائفية كانت مثالاً نموذجياً على هذا الميل سواء من حيث تشغيل خطاب الاستقرار أو السعى للعب دور الوسيط المحلى بين المجلس العسكرى والأطراف المتصارعة.
وبالتالى لا تعنى إطالة الفترة الانتقالية إلا إتاحة مزيد من الوقت لهذا الميل ليمد جذوره فى الواقع سواء فى شكل تنظيم، أو تنظيمات سياسية جديدة، أو فى شكل تحالفات قائمة بحكم الأمر الواقع تقدم نفسها بوصفها جبهة الاستقرار وحزب الدولة القادم الذى يجبر أى رئيس منتخب على أن يتعاون معه (تأمل المفارقة المدهشة فى التأييد غير المشروط الذى منحته رموز هذه النخب للدكتور شفيق ثم تحويل هذا التأييد فى غضون 48 ساعة لحكومة شرف تجاوباً مع إشارات المجلس العسكرى). ويزيد الطين بلة إمكانية عودة جهاز الشرطة بشكل كامل فى ظل هذه الشروط- أى فى ظل حماية ودعم هذه النخب المحلية. ملامح هذا الميل بدأت تتضح فى العديد من المواقع. كافة فعاليات المصالحة- بغض النظر عن جديتها- بين الشرطة والمواطنين تمت عبر توسط رموز لهذه النخب المحلية والتى يتبرأ بعضها أو غالبيتها من انتماؤه للحزب الوطنى بينما يعلن ولاؤه فى تزلف ذليل للمجلس العسكرى بوصفه ضمانة الاستقرار الوحيدة. باختصار إطالة أمد الفترة الانتقالية يفترض فى الجيش أنه سيدير فترة انتقالية، وهو افتراض خطأ كما أسلفنا.
فى ضوء هذه الصورة، قد تكون معركة انتخابية مبكرة خياراً مقبولاً لقوى الثورة، إذ يسمح لها باستكمال مسيرتها معتمدة على الزخم الجماهيرى الآخذ فى التآكل مع مرور الوقت، واغتناماً لحالة الشلل والتداعى فى سطوة النخب المحلية تلك والتى تستعيد توازنها ببطء ولكن ببعضٍ من الثقة. هذا الميل المعاكس للثورة لن يكبحه إلا التأسيس لشرعية جديدة تفصل جهاز الدولة عن المجال العام، على الأقل قانونياً، وتؤسس لمجال سياسى يتحول فيه خطاب “الاستقرار والأمن” من خطاب الدولة إلى خطاب سياسى محافظ أو رجعى من ضمن خطابات أخرى متصارعة. لا يبدو الجيش راغباً فى القيام بهذه المهمة، ولا تبدو الحركة الجماهيرية فى شكلها الحالى قادرة على حمله عليها.
بالمقابل، تستطيع معركة انتخابية مبكرة تفرض على هذه الأوليجاركية الخروج إلى المجال السياسى المكشوف بعيدا عن ظل الجيش وماتبقى من أجهزة النظام الأمنية، وهى منازلات لا تجيدها ولا ترغب فيها. من جهة أخرى، قد تكون معركة انتخابية مبكرة هى الفرصة الوحيدة لإعادة تأسيس اللُحمة الآخذة فى التآكل بين مكونات الحركة الجماهيرية واستعادة الزخم على أرضية تصفية الحزب الوطنى، بينما تتضاءل فرص إعادة تأسيس هذه اللحمة كلما طالت مدة الانتقال، التى تهدد بتمييع الحدود مابين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة وإعادة الاصطفاف خلف المجلس العسكرى من خلال تسييد خطاب وطنى محافظ عنوانه “الوحدة والاستقرار” فى مواجهة محاولات التجذير، سواء أتت من اتجاه الحركة العمالية الصاعدة أو من اتجاه قطاعات تقدمية الهوى فى الطبقة الوسطى المصرية.
هذا التداخل بدأت بوادره تلوح فى الأفق والأمثلة على ذلك عديدة كإعلان جماعة الإخوان المسلمين تأييدها للتعديلات الدستورية متتبعة فى ذلك إشارات المجلس العسكرى المبطنة والدافعة باتجاه قبول التعديلات، أو كتكتل غالبية العناصر الشابة خلف دعوة حكومة شرف إلى كبح موجة الاحتجاجات الاجتماعية باسم استعادة الاستقرار و”إفشال مخططات الثورة المضادة”، بل والقبول العام الذى تحظى به محاولات الشرطة للعودة للشوارع دونما حساب أو تحقيق فى المجزرة التى ارتكبتها بحق الثوار المصريين، هذا بخلاف تبنى البعض على استحياء لاسم الدكتور عصام شرف كمرشح توافقى لرئاسة الجمهورية فى مواجهة الأسامى الخلافية كالبرادعى أو عمرو موسى.
ثنائية الوطنى والإخوان:
فى هذا السياق، ينبغى مناقشة المخاوف التى ترى نتيجة الانتخابات محسومة سلفاً بين فلول الوطنى وجماعة الإخوان المسلمين. تشتمل هذه الرؤية على مبالغة فى تقدير قوة وتماسك الطرفين. فمن ناحية أولى، لا يمكن لجماعة الإخوان المسلمين، أو أية قوة سياسية عاقلة فى الحقيقة، المغامرة بفرض هيمنتها فى ظل هذا الاستقطاب والتحفز، ناهيك عن أن قدرة الإخوان على هذه الهيمنة هى نفسها محل شك. من ناحية أخرى، افتراض قدرة فلول الوطنى على تحقيق مكاسب انتخابية معتبرة فى هذه الظروف يتجاهل السوابق التاريخية للسباق الانتخابى. لا يجب أن ننسى أن الحزب الوطنى فى عز سيطرته على الإعلام وبتواطؤ أمنى كامل ودعم مادى غير مسبوق لم يحصل إلا على حوالى 35% من المقاعد البرلمانية عام 2005 لمجرد إجراء الانتخابات تحت الإشراف القضائى فى المراحل الأولى من الاقتراع. عودة المستقلين كما نعلم ضمنت للحزب الأغلبية البرلمانية. إلا أن هذه العودة- فى حال خوض الحزب للانتخابات رافعاً لافتته سيئة السمعة- لا تبدو ذات موضوع نتيجة لانتفاء أية مكاسب من وراء هذه العودة، أو على الأقل لا يمكن أن نشهد هرولة بهذه الأعداد. بل إن انتخابات مبكرة قد تفرض على الحزب مزيداً من التفتت لنرى رموزه- وبعضهم صالح وراغب للدمج فى حياة سياسية تعددية ومحكومة بالقانون- موزعين بين عدة أحزاب ميكروسكوبية أو جبهات كلها تدعى الانتساب إلى ثورة 25 يناير وترى أن من مصلحتها اللحاق بتحالفات أو جبهات قوى المعارضة، وهو ما ينتقص من احتمالات أغلبية برلمانية لهذه الفلول.
قدرة قوى الثورة على توجيه هذه الضربة للأوليجاركية تتوقف على شرطين. الشرط الأول يتمثل فى القدرة على تشكيل تحالف انتخابى عريض حول برنامج توافقى يشكل جبهة للقوى الثورية تمتد من الإخوان المسلمين وحتى اليسار الراديكالى. مرة أخرى التخوف من هيمنة الإخوان على هذا التحالف مسألة مبالغ فيها إذا أخذنا فى الاعتبار دخول قطاعات جديدة إلى الهيئة الناخبة مع إقرار الانتخاب ببطاقة الرقم القومى وحرية الحركة المتاحة للعديد من القوى العلمانية التى كانت الضحية الأولى لترتيبات سابقة بين الإخوان والأجهزة الأمنية. فى المقابل، يبدو أن الإخوان، على العكس من مناسبات انتخابية أخرى مثل اقتراع عام 2005 أصحاب مصلحة حقيقية فى الاحتماء بحلف ديمقراطى عريض لكى يتجنبوا مواجهة مخاطر لم تكن واردة فى السابق، وهذا الوضع مرشح للتغير فى المستقبل القريب إذا حصل الإخوان على وضع شرعى فى المجال السياسى الجديد قد يزين لهم خيار العمل المنفرد أو حتى بالتحالف مع بعض عناصر النظام القديم. الشرط الثانى يتمثل فى تعديل للقانون الانتخابى يتمثل فى إقرار القائمة النسبية المفتوحة أو نظام انتخابى مختلط. من شأن ذلك أن يخلق قدراً من التقارب بين الأصوات الحقيقية التى تحصل عليها القوى السياسية على المستوى الوطنى ومدى تمثيلها السياسى فى البرلمان.
هذان الشرطان لن يُفرضا إلا فى عملية كفاحية يومية تقتضى من النشطاء الخروج من فخ ميدان التحرير وما يستتبعه من الارتماء فى أحضان المجلس العسكرى وإمطاره بمطالب تعتمد فى تحقيقها على حساباته وليس على قدرات الحركة، أو التربص بالمجلس العسكرى والصراخ للتنبيه من خطر الثورة المضادة دون اتخاذ أى خطوات لمواجهة مخططاتها! وفى الحالتين تسهم القوى الديمقراطية فى تفعيل السيناريو الاستقطابى الإخوانى-الوطنى الذى تحذر منه. وفى الحالتين لن تسفر إطالة أمد بقاء المجلس العسكرى فى السلطة إلا عن مزيد من التماسك فى صفوف الأوليجاركية وتنظيم صفوفها ودعم وحدتها حول خيار مفرط فى الرجعية.
أعود لأشدد أن خيار الانتخابات البرلمانية المبكرة أبعد ما يكون عن المثالية، ولكن منذ متى كانت الظروف الثورية مثالية؟ وكيف يمكن لقوى تسعى لتغيير الواقع تغييراً جذرياً أن تطالب الواقع نفسه بالانصياع لشروطها قبل البدء فى معركة تغييره؟ ألا يشبه ذلك فى أحد أوجهه مطالبة مبارك بتعديل الدستور وإطلاق الحريات وفصل الحزب الوطنى عن الدولة قبل الشروع فى النضال ضد الحزب الوطنى؟… لا أدعو إلى التخلى عن أىٍ من المطالب الخاصة بتقديم الانتخابات الرئاسية على البرلمانية أو إطلاق الحريات العامة أو التصويت ب”لا” على التعديلات الدستورية. ولكن ما أشدد عليه هو ضرورة الاستعداد الجدى لهذا الخيار بوصفه معركة حاسمة للقوى الثورية قد تجد نفسها مضطرة لخوضها… فلنجعلها نقطة تحول تفضى إلى تحويل الانتفاضة الجماهيرية إلى ثورة حقيقية!